الروبل .. القفز على العقوبات

يبدو أن العالم يتجه إلى إعادة رسم خريطة العملات القوية بعد انتهاء الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ تغيرت قواعد اللعبة جزئيا. ويلاحظ أن روسيا نجحت نوعا ما في تجاوز نقطة العقوبات المفروضة عليها، وتمكن الروبل الروسي من الارتفاع لأعلى مستوى في خمسة أعوام أمام الدولار، الأمر الذي يطرح تساؤلات عن مستقبل الدولار كعملة رئيسة للعالم أجمع، وكذلك وقوف الروبل منافسا قويا للعملات الرئيسة الأخرى مثل اليورو والاسترليني، وله قراره في خريطة ومسار حركة أسواق العملات العالمية.
وهناك رؤى مختلفة بشأن قوة الروبل الروسي بعد أربعة أشهر تقريبا من الحرب بين روسيا وأوكرانيا. البعض يرى أن هذا الارتفاع أقرب إلى الاستعراض منه إلى الاستدامة، والبعض الآخر يعتقد أن تحقيق الروبل مكاسب هائلة إلى درجة وصول قيمته أمام الدولار إلى 54 من 150 للدولار سجلها في أعقاب نشوب الحرب، يعزز الاعتقاد بأن السياسة التي تتبعها موسكو على الصعيد المالي، كشفت ثغرات في هيكلية العقوبات الغربية القاسية المفروضة على روسيا، التي تشهد تصاعدا دوريا.
ومن المعلوم أن أغلب البلدان التي تخوض الحروب تتأثر عملتها بصورة سلبية كبيرة، فهناك دول فقدت عملاتها قيمتها الكاملة، بحيث تلجأ إلى عملات أخرى أجنبية، من أجل تسيير ما أمكن لها من حراك اقتصادي واجتماعي، والإنفاق على المجهود الحربي فيها.
لا شك في أن الإجراءات المشددة التي اتخذها البنك المركزي الروسي حيال عملته، أسهمت بقوة في إعادة قيمة الروبل إلى مستواه القوي الراهن. بما في ذلك منع تسرب الأموال إلى خارج البلاد، ومنها تلك العائدة للمستثمرين الذين عادة ما يلجؤون إلى الهروب برؤوس أموالهم في زمن الاضطرابات والحروب وعدم وضوح الرؤية حيال الاقتصاد المحلي. فضلا عن إصرار القيادة الروسية على ربط صادراتها بالروبل بما فيها النفط والغاز. ورغم رفض دول حلف شمال الأطلسي "الناتو" مثل هذا الإجراء، إلا أن شركات أوروبية عديدة باتت تدفع ثمن وارداتها بالعملة الروسية، لتأمين الإمدادات التي تنقص يوما بعد يوم. أدى ذلك بالطبع إلى زيادة الطلب على الروبل، ما أسهم في رفع قيمته تلقائيا.
صحيح أن العقوبات المفروضة على روسيا قوية وغير مسبوقة، لكن الصحيح أيضا أن هذه العقوبات لم تعزل موسكو تماما. فالأمر يتطلب مزيدا من الوقت، ومواصلة الإجراءات العقابية بوتيرة أسرع. ورغم وجود جوانب إيجابية لارتفاع قيمة العملة الروسية، على رأسها تأكيد متانة ما للاقتصاد المحلي في هذه الظروف بالتحديد، إلا أن الجوانب السلبية المرتبطة بالصادرات الروسية قوية.
ففي الوقت الذي تحتاج فيه البلاد إلى دفع عجلة الصادرات، للدول التي واصلت علاقاتها الطبيعية مع موسكو بعد الحرب، يسهم الروبل القوي في خفضها. وهذا ما يفسر مثلا خفض أسعار صادرات النفط والغاز للدول غير الغربية بمعدل بلغ 30 في المائة في الآونة الأخيرة، إلى جانب تقلص دائرة الدول التي تستورد مثل هذا النوع من الصادرات.
في العادة لا تخدم العملة المتقلبة الهدف الاقتصادي لهذا البلد أو ذاك. فكثير من المستثمرين يفضلون التعامل بعملات أكثر استقرارا. ومن هنا فإن انهيار الروبل واستعادة قوته في فترة زمنية قصيرة، يطرحان أسئلة كثيرة في أسواق صرف العملات حول مستوى المخاطر. وعلى هذا الأساس يعتقد بعض المراقبين أن ارتفاع قيمة العملة الروسية كان ضروريا من الناحية السياسية أكثر منه الناحية الاقتصادية، على اعتبار أن أصداء انهيار الروبل، تؤكد حقيقة أن الاقتصاد الروسي يعاني حقا ضربات العقوبات الغربية المتوالية عليه. ولذلك، فإن الاختبار الأهم أمام هذه العملة يبقى محصورا في طول المدة الزمنية التي يمكنه أن يحافظ خلالها على بقائه قويا، وسط تطورات متلاحقة، تملك موسكو بعض مفاتيحها، ولكن الطرف الآخر يملك مفاتيحه أيضا.
خلال الفترة الأخيرة خفف المشرعون الماليون الروس من بعض القيود المفروضة على خروج الأموال من البلاد، بحيث يمكن تحويل 50 ألف دولار إلى مصارف أجنبية في الخارج، وهذا يعد اختبارا لمتانة السياسة المالية المتبعة حاليا. لكن في النهاية، لا يوجد استنتاج واحد لقوة قيمة الروبل في مرحلة متغيرة تماما، وفي ظل مسار للعقوبات المتجددة لا يتوقف من جانب الغرب، بما فيها "مثلا" إقرار مجموعة الدول الصناعية السبع الكبرى في قمتها في ميونخ، وقف استيراد الذهب الروسي الذي يمثل السلعة الثالثة من حيث الأهمية لروسيا بعد النفط والغاز.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي