عندما يكون البقاء للأقوى

يجتمع أحيانا بعض الظروف على المنظمات ويشكل ضغطا استثنائيا على الموظفين. قد تكون هذه الظروف عبارة عن مرحلة صعبة تبحث فيها المنظمة عن نفسها بعد فترة من الفوضى والتخبط، وقد تكون متأثرة بظروف اقتصادية خاصة بالقطاع الذي تعمل به، وقد تكون نتيجة قيادة جدية جديدة ومختلفة عن سابقتها. فتدخل المنظمة تبعا لذلك مرحلة من التحولات الجذرية في طريقة أداء العمل تتغير معها الثقافة الخاصة بها، وتتطور معها الإجراءات، وربما يختفي في الزحام الجديد كثير من الممارسات التي كانت اعتيادية جدا.
وبعيدا عما إذا كانت هذه الظروف عادلة أو ظالمة، وربما مصطنعة أو اضطرارية، فإن مواجهة الموظف لها واردة في مسيرته العملية، ونتيجة حدوثها خروج فريقين: أحدهم مجتاز للمرحلة وآخر ساقط في تفاصيلها. الضرر الذي نتحدث عنه هنا قد يكون بسيطا جدا مثل تهميش أو تجاهل الموظف، وربما يتجاوز ذلك بتجنيبه أو تأثر سمعته بشكل سلبي، وربما يمتد إلى ما هو أبعد من ذلك، ما يشمل الإبعاد عن العمل ويصل للدخول في مجموعة يتم التحقيق معها في قضايا التسيب والإهمال الجسيم.
وما يهم الموظف المعرض لهذه المخاطر - وكل الموظفين كذلك فلا توجد منظمة اليوم بمنأى عن التغييرات السريعة والمفاجآت التنظيمية في عالم سريع متغير - ما يهمه هو أن يمتلك المناعة الكافية التي تبعده أو تخفف عليه وقع هذه الآثار. تقوم هذه المناعة على جودة مادة هذا الموظف، من جميع النواحي، المعرفية والتواصلية والفنية. كل منظمة تخوض مثل هذه الظروف تخرج بتصنيف للموظفين، بعضهم يأتي في أعلى التصنيف وبعضهم في أدناه، وهناك ما هو بين هذا وذاك. ومصلحتها في ذلك واضحة، البقاء للأقوى والأضعف سيثقل الحمولة. تجنب الوقوع في أدنى التصنيف أمر مهم، وهو قائم أولا على استمرار كسب الثقة بما تستوجبه هذه الثقة من الصدق والمباشرة في التعامل وإثبات النزاهة بالممارسات الواضحة. وبعد الثقة وبنائها يتجاهل كثيرون ركنا آخر مهما، وهو التسويق للذات وإظهار القدرات وإبرازها، ولذلك طرق مقبولة حتى لا تنقلب المحاولة على صاحبها.
وتتبع الثقة والتسويق سلسلة طويلة من المهارات التواصلية المهمة، من ضمنها الحضور والظهور، فالغائب والمتستر لا يهتم بهما أحد ولا يعرفهما أحد ولا يتذكرهما أحد! ومن المهارات التواصلية المهمة في أوقات الأزمات إبداء الاستعداد للمبادرة ورفع حس الاندماج وإبراز علاماته، من يجيد الضمور وردات الفعل المتأخرة لا يثبت نفسه في أي تصنيف. ولا يخفى على أحد أن كسب العلاقات وتقديرها مطلب مهم، فالمشاعر والأحاسيس الصادقة الشخصية لا تبني قواعد في دنيا المصالح، تماما مثل الموظف الذي يقول: "هذا لا أستلطفه، وهذا أعتقد أنه لا يحبني، وهذا أسلوبه منفر لذا أتجنبه" مثل هذا سينتهي به الأمر منكفئا على نفسه، بعيدا عن الدوائر المهمة، ومحاطا بمجموعة قليلة "صادقة معه" لكنها غير مؤثرة.
من مرتكزات المناعة الأهم، أو نقاط القوة التي لا يستطيع أحد إخفاءها، الثقلان المعرفي والمهني اللذان يملكهما الموظف، وهذا يتطلب شرطين، الإمكانات الفنية المختصة، وتفاعل هذه الإمكانات مع أنشطة المنظمة السابقة والحالية. على سبيل المثال، هناك كثير من أصحاب الشهادات أو أصحاب الخبرة، لكن ليس لهم دور فاعل ومستمر، مثل هؤلاء لا يرتقون كثيرا عندما يتم تصنيفهم. ولهذا يتوافق هذا المرتكز مع الأشخاص الذين يهتمون بتعلمهم وفي الوقت نفسه يحافظون على حماسهم وتفاعلهم في أماكن العمل، دائما ما يكون الإيجابيون الذين يجيدون التفاعل بمهنية ومهارة عالية في القمة في الأوقات الاعتيادية وفي أوقات الأزمات والظروف الصعبة.
ومرة أخرى، بغض النظر عن المسؤولية الأخلاقية لأي منظمة تقوم بعملية تصنيف للموظفين، أو تحاول تخفيف التكلفة، أو تغير نموذج العمل أو تتبع مسارا جديدا ومختلفا، يعد هذا الخطر أمرا واردا للجميع إذ نراه اليوم في شتى أنواع المنظمات الناشئة والمخضرمة، الصغيرة والضخمة، وسواء كان تحت برامج خفض التكلفة، أو تجديد القوى البشرية، أو الأتمتة، أو تغيير الجلد وتبديل الأعضاء، فإن الظروف تتشابه في قسوتها، وأفضل من يتفاداها المميز الذي يستبقي نفسه لأنه من الأقوى، أو ربما يملك من الأجنحة ما يطير به بعيدا إلى أماكن أفضل في لمح البصر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي