أدب الرحلة .. التكيف تحت وطأة التكنولوجيا

أدب الرحلة .. التكيف تحت وطأة التكنولوجيا
الرحلات تغيرت وسائلها فتغير أدبها "لوحة للفنان عدنان معيتيق".
أدب الرحلة .. التكيف تحت وطأة التكنولوجيا
برزت المصرية شيرين عادل، في الأعوام الأخيرة، ككاتبة متخصصة في أدب الرحلات.

حتى عهد قريب كان أدب الرحلة بوابة القارئ لاكتشاف المجهول، وجسر تواصل مع مختلف الثقافات الإنسانية، فهذا الفن النثري الموغل في الزمن والقدم أشبه بإنترنت الحقب الغابرة، يقدم للقارئ - بأعين الرحالة طبعا - ما يطلبه من معلومات ومعارف عن حضارة أو أمة أو دولة أو حدث أو عبادة... أو غير ذلك، مما قد يشكل مدار حديث الرحلة.
يمثل أدب الرحلة وعاء معرفيا ثريا، يتيح غزارة في المعلومات للمهتمين في كل الحقول المعرفية، ففي ثناياه يمتزج التاريخ بالجغرافيا، وتتداخل النظم السياسية والاقتصادية مع أنماط الحياة الاجتماعية والثقافية، ويلتقي السردي الواقعي بالخرافي والأسطوري، وتحضر تقاليد وعادات وأحوال الناس.. كل ذلك من زاوية ومنظور الكاتب/ الرحالة. فالملاحظة الشخصية، مع ما تفرضه من ذاتية موغلة، عماد هذا الفن النثري الثري.
شكل أدب الرحلة بواكير الدراسات السوسيولوجيا والأنثروبولوجيا، فمتون مصنفات الرحالة، ترمي إلى التعرف على مواطن البشر واختلاف ثقافاتهم وأساليب حياتهم، وترصد آثار التمايز والتأثر والتأثير بين الحضارات والشعوب. واستطاع هذا الأدب تحقيق ذلك وأشياء أخرى بعيدا عن ضوابط وقيود المنهج في الدراسات الاجتماعية. فعادة ما يميل الرحالة إلى نقل مشاهدهم ورؤاهم وتحليلاتهم بأسلوب أدبي شيق، يزاوج بين الحكي والقص والسرد السلس الذي يشد انتباه القارئ، ويحلق به بعيدا في رحلة ذهنية متخيلة.
الرحلة قديمة قدم وجود الإنسان على وجه الأرض، ما يجعل التأريخ لبداية ظهور أدب الرحلة مسألة عصية، فالبعض يربطها بالفكرة الدينية، على اعتبار أن معظم الرحالة من رجال العلم والدين ممن يحبون الاستطلاع وجوب الأصقاع، لكشف النقاب عن مجاهيل الأرض والناس. وربطها غيرهم بالتمدن، أي واقعة الاجتماع الإنساني، وما تعنيه من سلطة تفرض الاستعلام والاستخبار عن أحوال الغير "الرحلات التكليفية"، وفي أحسن الأحوال تكون بدافع التلاحق الحضاري.
يبقى المؤكد أن أدب الرحلة من الآداب الشعبية، وحقيقة الأمر أنه وإن ضم عناصر التراث الأدبي الشعبي، إلا أنه يزيد على كونه منها بما يضمه من معارف وأفكار، وبما يلبسه من ثوب أدبي قشيب. فالسرد فيه أساس غايته النقل والتعليم والترشيد الثقافي، والزمن فيه بين الحدث والكتابة والقراءة، ويحدث أن يزاوج الكاتب في متن رحلته بين الحقيقة والخيال، وبين السيرة الذاتية والاثنوجرافيا.
يوشك أدب الرحلة على خسارة دوره التقليدي تحت وقع ثورة التكنولوجيا، فلا طائل اليوم من رحلة إلى أدغال إفريقيا بحثا عن حياة قبائل الصحراء هناك أو أعماق آسيا لوصف المعيش اليومي لشعوب الجبال أو حتى سيبيريا، لنقل أساليب عيش القطبيين وسط الثلج، ما دامت شبكة الإنترنت اليوم تتيح ذلك، بأجود صوت وأحسن صورة وأدق التفاصيل، بضغطة زر واحدة فقط.
صحيح أن الوظيفة التعليمية لأدب الرحلة تأثرت إلى حد كبير بطوفان المعلومات والمعارف المتاح على الشبكة العنكبوتية، عن كل شيء تقريبا من أصغر مكونات الذرة في المادة إلى المجرات والكواكب في الفضاء. لكن هذا لا يعني احتضار أدب الرحلة، فالمتابع للساحة الثقافية العربية - على الأقل - يسجل انتعاشا نوعيا لهذا الأدب، في العقود الأخيرة، فقائمة كتب أدب الرحلات تطول عاما بعد أخيه. وقد بلغ الأمر مطلع الألفية حد استحداث جائزة خاصة بأدب الرحلات، تحمل اسم "جائزة ابن بطوطة لأدب الرحلات".
حصار التكنولوجيا لم يحل دون توالي ظهور مصنفات في أدب الرحلة في الخزانة العربية، فنشر يوسف القعيد الروائي المصري، عن دار الشروق 2001، رحلة "مفاكهة الخلان في رحلة اليابان"، يرصد من خلال 32 مقالا زيارته المثيرة إلى هذه الدولة الآسيوية الفريدة. بعد عشرة أعوام، ينشر محمد المخرنجي المبدع المصري رحلته الموسومة "جنوبا وشرقا، رحلات ورؤى" (2011) منطلقا من رأس الرجاء الصالح في جنوب إفريقيا مرورا بالهند وصولا إلى الصين، معرجا على تركيا في رحلة العودة، كل ذلك بأسلوب أدبي شيق يتلمس المعاني في الحضارة والثقافة.
مصطفى عبادة مصري آخر، أبدع في أدب الرحلات بكتاب "ثلاثون يوما في المستقبل - رحلة إلى ينتشوان - نينجشيا - الصين"، سرد خلال 21 فصلا جوانب مختلفة من حياة المجتمع الصيني كما رآها وعايشها عن قرب. وكيف استطاع الشعب الصيني المصالحة مع ذاته، بتجاوز الهزيمة الكبرى في الحرب التي شنتها عليه اليابان، ثم الانطلاق نحو حلم منافسة الولايات المتحدة الأمريكية على قيادة العالم.
يعد عثمان أحمد حسن الدبلوماسي السوداني أحد المتوجين حديثا بجائرة أدب الرحلات عن يومياته "أسفار استوائية: رحلات في قارة إفريقيا" (2019) التي تسرد صفحاتها تنقلات الكاتب بين شرق ووسط إفريقيا، من نيروبي نحو ممباسا وزنجبار.. وغيرها من عواصم وكبرى مدن الوسط والشرق الإفريقي. ابتعدت يوميات الرحلة عن الأحوال السياسية والثقافية نحو تقديم معارف عامة، لكل قارئ يرغب في تشكيل صورة عن الفضاءات والأمكنة، ويعزى ذلك إلى الصفة الدبلوماسية التي يحملها كاتب اليوميات.
بعيدا عن الشرق "آسيا" والجنوب "إفريقيا" اختار مختار سعد شحادة عنوان "بلاد السامبا يوميات عربي في البرازيل" (2019) لرحلته إلى أكبر دول أمريكا اللاتينية، حرص فيها على تقديم صورة حية ومعيشة، عن الآخر البرازيلي، بعيدا عن الصور النمطية الجاهزة التي كرسها الإعلام والسينما والمسلسلات.
وبرزت المصرية شيرين عادل، في الأعوام الأخيرة، ككاتبة متخصصة في أدب الرحلات، فأول أعمالها في أدب الرحلات كان "الأولة باريس"، يحكي تفاصيل رحلة امتدت أسبوعين في عاصمة الأنوار، ثم مؤلف "الفيروزية" عن ثلاث دول الشام "سورية ولبنان والأردن"، وأخيرا كتاب "أساطير السفر السبعة" الذي يقترب إلى دليل إرشادي للسفر منه إلى رحلة، رغم ما تضمنه من قصص وحكايات لرحالة عرب وعالميين، تحث على السفر وتحبذه وتدفع إليه.
مهما حاولت التكنولوجيا بقوتها وجبروتها وأد هذا الفن الأدبي العريق، فالأكيد أنه لن يعدم حيلة للتكيف والتطور، وفرض نفسه بقوالب تتوافق مع التحولات. وما استمرار التأليف في أدب الرحلة، بشكل لافت أخيرا، سوى دليل قاطع على الرغبة الملحة لكسب رهان الحفاظ على فن الرحلة، ونقله أمانة إلى الأجيال القادمة.

الأكثر قراءة