«فتح الأندلس» .. دعوة تاريخية للتعايش والتسامح
يبدو أن صناع الدراما يأبون هذا العام أن يخوضوا غمار السباق الرمضاني دون إثارة زوابع من الجدال، عبر ما يقدمونه من أعمال نجحت إلى حد كبير في تحقيق نسب مشاهدة عالية، وتمكنت من جعل الكبير والصغير يتسمر لساعات أمام الشاشة الصغيرة لمتابعة أحداث أبطال معروفين. ولعل مسلسل "فتح الأندلس" أحد أبرز الأعمال الدرامية لموسم رمضان 2022 التي أثارت جدلا واسعا بين رواد التواصل الاجتماعي وكتاب الرأي وعدد كبير من المؤرخين في دول شمال إفريقيا، حول أصول القائد طارق بن زياد، فاتح بلاد الأندلس.
لطالما شكلت رومانسية الزمن الجميل زمن الانتصارات وأمجاد الأجداد التي يعبق بها تاريخنا العريق مادة خصبة لمخيلة مبدعينا، الذين يتبارون فيما بينهم في إعادة نسج ذلك التاريخ وقولبته في قالب ملحمي درامي يعيدنا إلى ذلك الزمن العامر بالانتصارات والانكسارات، ليعكس فيها آمال وأحلام جيل اليوم وطموحاته وتحفيزه للنهوض مجددا من كبوته، ليخط مستقبله بريشة الماضي، لكن برؤية الحاضر. من منا لم تداعبه سيرة الخلف العطرة لأبطال تاريخيين مروا عبر تاريخنا، وتركوا بصماتهم على صفحاته، من منا لم يغرق في أحلام اليقظة وهو يستعرض شريط أحداث أولئك الأبطال في عهد ازدهار العرب في بلاد الأندلس، ومن منا لم يتأمل ويتفكر ويتمنى لو أنه عاش في زمن طارق بن زياد، من منا لم يتغن ويطرب للموشحات الأندلسية وما تشكله من جسر يربط بين الفن والترفيه، ويجمع بين الفلسفة اليونانية والأوروبية والعربية، بما تحمل بين طياتها من خصال حميدة بنت حضارة شرقية في قلب بلاد الغرب؟!
مليء بالتشويق والحبكات الدراميةيبدو أن مسلسل "فتح الأندلس" جاء ليعيد شريط تلك الأيام المجيدة على مرأى جيلنا هذا. تتناول أحداث هذا المسلسل التاريخي لمحمد سامي العنزي المخرج الكويتي، تفاصيل العمليات التي قادها طارق بن زياد من شمال إفريقيا، وبالضبط من مدينة طنجة، للوصول إلى شبه الجزيرة الإيبيرية، في قالب مليء بالتشويق والحبكات الدرامية، التي تعيد تذكير المشاهد بحقبة تاريخية مهمة ومشرقة في تاريخ العرب، أعقبها تأسيس دولة الأندلس، التي دامت أكثر من ثمانية قرون.
وتدور أحداث العمل ضمن فترة التحضير لعبور البحر من أجل فتح الأندلس بقيادة طارق بن زياد، الذي قاد جيوشا عندما خرج من بلاد المغرب أثناء ولاية موسى بن نصير في عهد الدولة الأموية، لفتح الأندلس قبل 13 قرنا، والصعوبات والمعوقات التي واجهته لتحقيق هذا الفتح.
ويقدم المسلسل - الذي كتبه ستة كتاب عرب، هم مدين الرشيدي "الكويتي"، وصالح السلتي وإبراهيم كوكي ومحمد اليساري "السوريون"، وأبوالمكارم محمد وصابر محمد "المصريان" - للمشاهد دروسا في الشجاعة والتضحية والإخلاص، وقيم التسامح والتعايش.
والعمل التاريخي من بطولة سهيل جباعي الممثل السوري، الذي يجسد شخصية القائد طارق بن زياد، ورفيق علي أحمد اللبناني، الذي يجسد شخصية موسى بن نصير، وعاكف نجم الأردني، في شخصية أبوبصير شيخ طارق بن زياد، ومحمود خليلي الفلسطيني، في شخصية جوليان حاكم سبتة، وتيسير إدريس الفلسطيني السوري، الذي يجسد شخصية لوذريق حاكم طليطلة، ومحمد العجيمي الكويتي الذي يجسد شخصية أحد قادة الغوط، إلى جانب هشام بهلول الممثل المغربي، الذي يجسد دور شداد، صديق طارق بن زياد وقائد جيوشه، وهو أحد أبرز الفرسان الأشداء وأحد أفراد كتيبة طريف بن مالك، كثير الحذر، ويعتمد عليه طارق في المهام الصعبة.
جدل تاريخي
كان مسلسل "فتح الأندلس" قد أثار جدلا على مواقع التواصل الاجتماعي بين الجزائريين، زاعمين تجاهل العمل التاريخي أصول طارق بن زياد التاريخية، حيث شن عديد من "النشطاء التويتريين" هجوما ضد القائمين على العمل، واتهموهم بتغيير حقائق تاريخية، زاعمين "أن العمل لم ينسب طارق بن زياد إلى الجزائر، رغم أنه جزائري"، وفق قولهم.
كما أثار المسلسل التاريخي عاصفة من حملات المزايدات التاريخية بين رواد وسائل التواصل، وأثار حفيظة عدد من المتابعين المغاربة، لما يتضمنه - بحسب تعبيرهم - "من أخطاء تاريخية تشوه وتطمس تاريخ المغاربة وإسهامهم في فتح الأندلس".
وأجمع عدد من رواد مواقع التواصل الاجتماعي على أن المسلسل لم يكن موفقا في نقل ذلك التاريخ الأندلسي، واصفينه بالمسلسل "السيئ الذي يحمل مغالطات تاريخية كبيرة".
وفيما يعود إلى الإخراج، قال محمد العنزي المخرج الكويتي: "إن أسبابا عديدة دفعته إلى إخراج هذا العمل، أبرزها قيمة تاريخ الأندلس الزاهر والثري جدا من جوانب عديدة، كالجمال البصري والدرامي والتاريخي والإنساني، لكونها حضارة ضخمة وكبيرة، لها ارتباط بنا كعرب ومسلمين، وهذا سبب تقديمه عملا دراميا يصور كيف بدأت الحضارة في الأندلس لتنير العالم علما ومعرفة وجمالا".
وفي هذا الصدد، علق عبدالإله الجواهري المخرج والناقد السينمائي المغربي عبر صفحته على "فيسبوك" قائلا: "مسلسل مهلهل، دون هوية فنية أو تاريخية. بشخصيات لا علاقة لها بالتاريخ أو الواقع، ممثلون تائهون.. الجمهور المغربي ليس بحاجة إلى من يقدم له تاريخه، لأنه يعرف تاريخ بلاده جيدا، ويعرف كيف فتحت الأندلس، ومن فتحها".
عمل تاريخي فيه جزء من الواقع
من جانبه رد المخرج محمد العنزي على ذلك الهجوم بتغريدة عبر حسابه في "تويتر"، قال فيها: "التشويه المتعمد لمسلسل (فتح الأندلس) من قبل البعض قبل الاطلاع على محتوى المسلسل كذب وافتراء. ومحاولات البعض تحجيم قادة مثل طارق بن زياد بأقاليم حددتها لنا اتفاقية سايكس بيكو لن تفيد". وأضاف "أن طارقا وغيره من قادتنا إرث لأمة، لا لدولة معينة أو إقليم". وفيما يخص سيناريو "فتح الأندلس" قال مخرجه في تصريحات صحافية، "إن تلك العملية تجاوزت سبعة أشهر، خلال ورشة عمل مكونة من 11 شخصا، الذين ألفوا العمل ووضعوا هيكليته، وبعدها عرض النص على الأزهر الشريف، وجرى منحه الموافقة الشرعية قبل بدء التصوير"، ولفت إلى أن المسلسل يسلط الضوء على "طارق بن زياد، هذا القائد العظيم الذي قاد الجيش، وتحرك بعدد بسيط وبإمكانات أبسط بكثير من الطرف الآخر، واستطاع أن يهزم أحد أعظم جيوش المنطقة في ذلك الوقت، وهو الجيش الإسباني".
وسبق للمخرج العنزي، الحائز عدة جوائز عربية، الإشارة إلى أن "العمل تاريخي وفيه جزء من الواقع، مع إضافة بعض المشاهد التي تتماشى مع أجواء المسلسل"، مؤكدا أنه "تمت مراجعة النص كاملا، وما يحمله بين طياته من وقائع تاريخية من قبل الجهات المختصة".
ويحتوي مسلسل "فتح الأندلس" على عديد من الرسائل، التي تعكس واقعنا اليوم، منها رسائل التعايش بين الديانات، والتعاون والشراكة بين الناس دون تفرقة أو تمييز. وتم رصد أكثر من ثلاثة ملايين دولار لإنجاز هذا العمل، الذي تم تصويره في مناطق مختلفة بين تركيا ولبنان، وهو من إنتاج شركة المها الكويتية للإنتاج الفني، ويتم عرضه على عدد من القنوات العربية، في السعودية، والمغرب، والكويت، وقطر والإمارات، إضافة إلى عدد من منصات البث الرقمي.