ما وراء إبداع المكفوفين .. عالم لا يراه المبصرون

ما وراء إبداع المكفوفين .. عالم لا يراه المبصرون
تحول العمى إلى موضوع أعمال أدبية وفنية خالدة.
ما وراء إبداع المكفوفين .. عالم لا يراه المبصرون
هيلين كلير
ما وراء إبداع المكفوفين .. عالم لا يراه المبصرون
أبو العلاء المعري
ما وراء إبداع المكفوفين .. عالم لا يراه المبصرون
طه حسين

يحكى أن الشاعر بشار بن برد كان يمشي يوما في بغداد، فسأله مبصر عن منزل رجل يسكن حيا قريبا من الشارع، حيث يوجدان. حاول بشار إرشاد الرجل إلى البيت المعلوم، لكن عسر فهم السائل حال دون ذلك، فاغتاظ وغضب الشاعر، وأخذ بيده وقاده إلى منزل الرجل الذي يبحث عنه، وهو يقول له "أعمى يقود بصيرا لا أبا لكم / قد ضل من كانت العميان تهديه".
نتذكر هنا قول الجاحظ "لقد نجح بشار بن برد في تصوير ما عجز عنه المبصرون"، في معرض كلامه عن بشار، باعتباره شاعرا غزير الشعر، سمح القريحة، كثير الافتنان في الشعر. حول إمام الشعراء المولدين - يلقب بالمرعث - العمى إلى مصدر قوة وشكيمة واعتزاز، لدرجة ربط فيها ذكاءه بالعمى، فتحدث عن نفسه في بيت شعري "عَميتُ جنينا والذكاء من العمى / فجِئت عجيب الظّن للعلم مَوئِلا".
لم يكن بشار الأعمى الوحيد الذي نحت اسمه في الثقافة العربية، فقبله وبعده سجل عميان آخرون أنفسهم في قائمة أدب العميان، فنجد أعشى قيس، صاحب "لامية الأعشى" واحدة من المعلقات، وأبو العلاء المعري رهين المحبسين وفيلسوف الشعراء. ويحضر في اللغة ابن سيده، صاحب معجم "المحكم والمحيط لأعظم"، وأبو البقاء العكبرى عالم اللغة والفرائض والحساب... وصولا في الحقبة المعاصرة إلى طه حسين عميد الأدب العربي، الذي تحدث بدوره عن العمى، في كتابه "الأيام" (1929)، بقوله "أتمنى أن يجد الأصدقاء المكفوفين في قراءة هذا الحديث تسلية لهم عن أثقال الحياة، كما وجدت في إملائه، وأن يجدوا فيه بعد ذلك تشجيعا لهم على أن يستقبلوا الحياة مبتسمين لها، كما تبتسم لهم ولغيرهم من الناس".
عالميا، تحول العمى إلى موضوع أعمال أدبية خالدة، على غرار رائعة "بلد العميان" (1904) لهربرت جورج ويلز الروائي البريطاني، حيث يجد رجل نفسه في بلد للعميان، انعزل عن العالم لقرون، بعدما استطاع هؤلاء بلوغ درجة الاكتفاء الذاتي، من خلال تطوير حواسهم الأخرى، مع غلبة الانغلاق وضيق الأفق لدرجة أنهم أصبحوا يعانون رهابا من الأجانب. وحديثا، فاز أنتوني دوير الروائي الأمريكي بجائزة بوليتزر للرواية (2015)، عن روايته "كل الضوء الذي لا نستطيع رؤيته" التي تحكي قصة ماري لوري، الفتاة الباريسية العمياء، في السادسة من العمر، زمن الحرب العالمية الثانية.
رفض عميان فكرة الحديث باسمهم، فوضعوا مصنفات راوحت ما بين القصة والرواية والسيرة، لا تزال تتصدر قائمة روائع الأدب الإنساني عبر التاريخ. فكتب الأمريكي توم سوليفان كتاب "لو كان بإمكانك رؤية ما أسمع" (1975)، وحرر الأكاديمي جون إم هال مذكراته، عن إصابته بالعمى، في كتاب "مذكرات العمى: رحلة عبر الظلام" (1990) التي ختمها بعبارة "لاستكمال إنسانيتنا، يحتاج المكفوفون والمبصرون بعضهم بعضا". واختارت المعلمة سالي هوبرت اليكسانر التي أصيبت بالعمى في ريعان شبابها، منح الأطفال فرصة الاطلاع على عالم المكفوفين، من خلال مؤلفات عديدة "أمي لا تستطيع رؤيتي" (1990)، و"أخذ الانتظار: رحلتي إلى العمى" (1994)، و"هل تتذكر اللون الأزرق: أسئلة الأطفال حول العمى" (2000)، وأخيرا "لمست العالم" (2008).
تبقى هيلين كيلر - الأديبة الأمريكية، الكفيفة الصماء "معجزة الإنسانية" كما توصف في الأوساط الأدبية - اسما فارقا في أدب العميان، بنشرها 18 مؤلفا في مسيرتها الأدبية، من أشهرها "قصة حياتي" (1903)، و"العالم الذي أعيش فيه" (1908)، و"الخروج من الظلام" (1913)... وتحول إلى رمز وطني ابتداء من 1980، حين أصدر الرئيس جيمي كارتر مرسوما رئاسيا للاحتفال بعيد ميلاد "صانعة المعجزات" في الثقافة الشعبية الأمريكية.
تخاطب هيلين القراء، بالأصالة عن نفسها ونيابة عن العميان، فتقول "استفيدوا من عيونكم كما لو كنتم مهددين غدا بفقد هذه النعمة. وإن النصح نفسه ينبغي تطبيقه على سائر الحواس الأخرى، استمعوا إلى الصوت الجميل، كما لو كنتم غدا ستصابون بالصمم، المسوا كل ما يستحق منكم اللمس، تنسموا أريج الزهور، وعبير العطور، تذوقوا لذة كل طعام سائغ لذيذ، تتناولونه كما لو أنكم ستفقدون غدا حاستي الشم والذوق، تمتعوا بكل حاسة من حواسكم، استمتعوا بكل اللذائذ، وانعموا بكل مظاهر الجمال التي تتفتح أمامكم في هذه الدنيا بشتى الأشكال ومختلف الطرائق التي تتقدم إليكم بها الطبيعة الخلابة". واشتهر عنها شعبيا في المجتمع الأمريكي قولها "عندما يغلق باب السعادة، يفتح آخر. لكن في كثير من الأحيان ننظر طويلا إلى الأبواب المغلقة، بحيث لا نرى الأبواب التي فتحت لنا".
أي حديث عن هذا الأدب سيظل ناقصا دون ذكر الأرجنتيني خورخي لويس بورخيس، الأب الروحي لأدباء أمريكيا اللاتينية، الذي فقد بصره في الـ40 من عمره، وقهر العمى بكتاب "مديح الظلام"، تحدث فيه عن صراعه مع العمى، "لم أسمح للعمى بأن يفت في عضدي... إن العمى لم يكن طاقة كبرى تقع علي، ولا ينبغي النظر إليه نظرة إشفاق، بل على أنه أسلوب حياة، أسلوب من أساليب العيش"، ثم يضيف على نحو من تخفيف أثر العمى فيه "في الماضي كان العالم الخارجي يتدخل كثيرا في يومياتي، أما الآن فصار العالم برمته في داخلي، صرت أبصر على نحو أفضل، ذلك أني بت أستطيع رؤية الأمور التي أحلم بها. حل العمى تدريجيا، لم يأت مباغتة أو على نحو درامي. في حال فقد المرء البصر فجأة، تتحطم الدنيا إربا أمامه، بلا شك. غير أنه في حال مر بمرحلة الغروب، يشعر بأن الزمن يتدفق على نحو مختلف".
يطول بنا مقام الحديث عن أدب العميان، فقائمة الأسماء والعناوين عن جماعة العميان أو "حصاد الظلام" - كما يحبون أن يوصفوا - طويلة، يبقى القاسم المشترك بينها ما أوردنا في الاستهلال على لسان الشاعر العربي بشار بن برد، إنه القدرة على تحويل النقص والفاقة إلى قوة وإرادة، وهذا ديدن رابطة أدباء العميان عبر التاريخ.

الأكثر قراءة