بيونج شول هان .. حماية الإنسان الرقمي من نفسه
فرض بيونج شول هان الفيلسوف الألماني من أصل كوري اسمه على مسرح الفكر والفلسفة، بعدما حظيت مؤلفاته بالاهتمام والتداول، على نطاق واسع، بين القراء في أنحاء شتى من العالم، بسبب قدرته على إعادة الاعتبار إلى الموقف الفلسفي تجاه العالم المعاصر، فالمنظور النقدي حاضر في كتابات الرجل، المهتمة أساسا بالتكنولوجيا وما تولده من ثقافة، وعلاقات كل ذلك بالنظام الرأسمالي، وتداعياته على الليبرالية.
يعده كثيرون امتدادا لمدرسة فرانكفورت النقدية، بإصراره الدؤوب على كشف أهمية الموقف الفلسفي تجاه العالم، ليس بغرض تقديم الحلول، بقدر ما هو محاولة لوصف طبيعة العالم وصفا تحليليا دقيقا. فجل أعماله التي بلغت الآن 16 مؤلفا "مجتمع الشفافية، ماهية السلطة، طوبولوجيا العنف، من داخل السرب..."، تتداخل وتشتبك، بدرجات متفاوتة، مع أطروحة الكاتب المرجعية التي تسعى إلى قراءة وتفكيك بنية العالم القائم من حولنا، برؤية نقدية.
مع توالي الإصدارات تتأكد "حساسية" المفكر تجاه كل ما هو رقمي، فالآلات الرقمية والرأسمالية، من وجهة نظره، شكلتا تحالفا خارقا، يقضي على حرية الفعل بأكملها. ويذهب حد القول "إن الرأسمالية كنظام شامل تتحول إلى رأسمالية المراقبة. إن المنصات التكنولوجية ترصدنا وتراقبنا وتتحكم في تصرفاتنا لتحقيق أقصى قدر من الربح، هي من أجل ذلك تسجل كل نقرة على الحاسوب وتحللها. نحن متأرجحون مثل الدمى من طرف البرامج الخوارزمية ويخيل إلينا أننا أحرار. إننا نشهد اليوم جدلية للحرية تحولها إلى عبودية طوعية".
كل نقرة يقوم بها المرء، يتم تخزينها، كل خطوة يتخذها يمكن تتبعها، نترك المسارات الرقمية وراءنا في كل مكان، وتنعكس حياتنا الرقمية، نقطة بنقطة، داخل الشبكة، لذا صارت "الحرية في العالم الرقمي الوجه الآخر للقهر"، فالتعامل مع الأمور - بحسب هان - دون وعي بالقهر المفروض على حريتك، يعني نهاية الحرية وبداية العبودية.
عبودية تزج بنا جميعا في دالة رقمية، لا تختلف كثيرا عن إقطاعية العصور الوسطى، حيث يتولى أمراء الإقطاعيات الرقمية أمثال "فيسبوك" وغيرهم، منح المستخدمين قطعا مجانية من الأرض للحرث، "ونحن نحرثها مثل الحمقى، ليأتي هؤلاء السادة لجني الحصاد. هذا هو الاستغلال التواصلي، نتواصل ونحن نتوهم الحرية، فيجني الإقطاعيون أرباحهم من هذا الاتصال، الذي تقوم الأجهزة السرية بمراقبته. إنه نظام بالغ الفعالية، فلا أثر لأي احتجاج ضده، لأننا نعيش في ظل نظام يستغل الحرية نفسها".
لا ينكر هان أن اللغة الرقمية غيرت من طبيعة العالم من حولنا، وعلى كل المستويات. واستطاعت الرقمنة تحقيق الحلم القديم، بتوحيد لغات العالم في لغة واحدة، قادرة على إزالة الحواجز والتقريب بين الشعوب. لم يأت هذا الإنجاز مجانا، بل كان مقابل تدمير الفردية والسمات الشخصية التي تميز كل فرد عن الآخر، وتقليص من فرادة العالم الإنساني، وقدرته على الإبداع والتجاوز. وبلغ التخريب درجة تحويل المشاعر الإنسانية بشتى أصنافها "الفرح، الحزن، الأسى..." إلى إشارات رقمية، وأيقونات تعبيرية أفرغتها من عمقها، وأفقدتها أي قدرة على التأثير والفعل.
وهكذا أصبح المواطن الإلكتروني - كما وصفه هان في مؤلف "من داخل السرب، آفاق رقمية" (2021) - شخصا فاقدا للهوية الذاتية الخاصة، جراء مشاركته المفرطة في الشبكات الاجتماعية التي أضحت قاعات، تعرض فيها أمور غاية في الشخصية. وانتقد بشدة الحديث عن "سكان رقميين" في الشبكات، فأسس تشكيل "النحن" مفتقدا في هذه الحالة لانعدام الرابط الداخلي للتجمع. صحيح أن هؤلاء حشد، لكن بلا روح أو ضمير أو ناظم، فهم معزولون مشتتون منكفئون على ذواتهم، يجلسون أمام الشاشات كالغرباء.
يفضي الاستغراق في الحياة الرقمية إلى تغييرات جذرية في الحياة الواقعية، فـ"اختفاء الطقوس في الوقت الحاضر، علامة على زوال الجماعة، فثورة الاتصال الناجمة عن الطفرة الرقمية الحالية، وإن جعلتنا أكثر اتصالا فيما بيننا، إلا أنها لم تجعلنا أكثر ارتباطا، ولا أكثر اقترابا بعضنا من بعض. لقد قضت وسائل التواصل الاجتماعي الحديثة على البعد الاجتماعي في عمليات الاتصال بين الأفراد". صحيح أن المجتمع مجتمع تواصلي بامتياز، لكنه لا يؤلف بين أفراده لحمة جماعية منصهرة. فلا عناية ولا اهتمام اليوم بالأنشطة والممارسات الجماعية، فالكل بات مستغرقا في اللحظات الفردية.
يمتد تأثير "البياناتية" - نسبة إلى البيانات - إلى المعرفة، فلا وجود لعملية التفكير بالمعنى الصحيح للكلمة في العالم الرقمي الذي يقوم على إلغاء الفكر. لا وجود لفكر يقوم على البيانات، العمليات الحسابية والرياضية وحدها تقوم على البيانات، لأن المعرفة بطبيعتها شبقية. فجأة صارت البيانات أداة تعامل الإنسان الرقمي مع العالم، فتعداد الأرقام والحساب الكمي عملية مستمرة بلا توقف، فتحول الأصدقاء إلى رقم في حسابات مواقع التواصل الاجتماعي، رغم أن الصداقة الحقيقية هي علاقة قائمة على الرواية والسرد.
العصر الرقمي هو عصر جمع الأرقام، العد والقابلية للعد. حتى قيمتي الانتماء والوفاء تخضعان الآن للحساب الكمي، عن طريق عد علامات الإعجاب. إنها الحياة الرقمية حيث تنعدم صور التعقيد ومظاهر السلبية، ما يفقد المرء القدرة على التفكير بطريقة معقدة. "إن الإيجابية الكامنة في التكنولوجيا الرقمية تقلل من إمكانية وجود أي خبرة، وتقوض قدرتنا على تكوين السلبية والعمل في ظلها".
تدخل الإنسانية حقبة "حصار الرقمنة"، لذلك لم يتردد هذا الفيلسوف النقدي في المطالبة بـ"حماية أنفسنا من أنفسنا". فالرأسمالية في السابق، تتأسس على استغلال خارجي، ثنائية العمال وأرباب العمل. انقلبت هذه المعادلة اليوم، ليصبح الاستغلال ذاتيا، تحت وهم التعبير عن النفس. وتتزايد مطالب الحماية، مع تهديد طيف واسع من المجتمع بمتلازمة "الإنهاك المعلوماتي" التي تحدث عنها 1996 ديفيد لويس عالم النفس البريطاني.
إنها ذاك المرض النفسي الناتج عن الإفراط المعلوماتي، ما يؤدي إلى تدهور تدريجي في القدرات التحليلية، ونقض الانتباه وعدم الراحة العامة، وشبه عجز عن تحمل المسؤولية. يعمل شلال المعلومات الدافق في الشبكة، على إضعاف الفكر، لأن التحليل يتجاهل كل ما لا يصلح أن يكون موضوعا للتأمل.
يواصل وريث سر مدرسة فرانكفورت الحفر عميقا في عوالم الطفرة الرقمية، معلنا أن الإنسانية فعلا تعيش ثورة اتصالات، لكنها اتصالات صامتة. وتشهد انفجارا في المعلومة لا في المعرفة، وشتان بين الأمرين. فزمن المعلومات يرتهن إلى الحاضر فقط، دون أن يسمح بتراكم المعرفة الممتدة زمنيا بين الماضي والمستقبل.