بورتريهات شخصية .. فان جوخ قبل وبعد دخول مصحة الأمراض العقلية
في أواخر ثمانينيات القرن الـ19، تأمل شخص مغمور اسمه فنسنت فان جوخ في عالم الفن. وكتب إلى شقيقه ثيو، تاجر الأعمال الفنية في باريس: "من هو كلود مونيه في رسم المناظر الطبيعية، والشيء نفسه في رسم الشخصيات، ومن الذي سيفعل ذلك؟ مثلي تماما، لا بد أنك تشعر بوجود ذلك".
لقد لبى فان جوخ نداءه الخاص، حين أبدع برسم لوحة بورتريه جديدة تقوم على الجرأة اللونية، وضربات فرشاة تتمتع بالحرية في الحركة وتبسيط منمق: "إنني لا أحاول أن أرسم أنفسنا من خلال التشبه بالصور الفوتوغرافية بل من خلال تعابيرنا العاطفية، باستخدام علمنا وذوقنا العصري للألوان كوسيلة للتعبير وإبراز الشخصية".
في أواخر القرن الـ19، كان هذا المنهج غير مألوف، والنتيجة غير معروفة. وصل فان جوخ إلى باريس رساما مبتدئا في عام 1886، وكله حماسة للتعلم. وغادر في عام 1888، قلقا، ومريضا وشديد الاضطراب من ضغوط المدينة، وكان مدمنا على الكحول تقريبا – لكن تشكلت هناك مفرداته الفنية. وكما يروي معرض معهد كورتولد الرائع، المسمى "فان جوخ البورتريهات الشخصية"، حقق ذلك إلى حد كبير من خلال رسمه لنفسه.
رسم فان جوخ 22 بورتريها شخصيا في عام 1887، 12 منها في معرض كورتولد، بعضها لم يسبق أن شوهد في المملكة المتحدة، وبعض آخر لم ير لمدة نصف قرن. قد تتوقع انحدارا إلى المرض أو الجنون، لكن هذه العشرات من اللوحات هي من أكثر اللوحات بهجة، وإذهالا في نضوج مسيرة أي فنان على الإطلاق.
يعطي دوران ضربات الفرشاة والألوان الدافئة الوافرة على "البورتريه الشخصي" ذي العينين الهزيلتين والجامحتين، وتجرؤ لوحة "البورتريه الشخصي بقبعة القش" ذات اللون الأصفر اللامع في الخريف، أملا بالانبعاث مرة أخرى. في ثلاثية أخرى من تصويره لذاته تعود لعام 1889، وهو العام الذي دخل فيه المصحة العقلية في بروفانس، أجبر فان جوخ على مواجهة العلاقة بين فنه وصحته العقلية، ولكننا سنجد هنا أيضا تصريحات تملؤها الشجاعة والإيمان.
بفضل البورتريهات الشخصية هذه، يعرف الجميع كيف يبدو فان جوخ: شخصا غريب الأطوار ذا شعر أحمر كثيف بعيون خضراء ثاقبة غائرة عميقا في مقلتيها، وتجاعيد بين الحاجبين، وعبوس دائم – وتأمل دائم، إن لم يكن كئيبا بشكل واضح. المعجزة هي أن هذه الجوانب التي بالكاد تبدو متباينة تنتج لوحات متنوعة للغاية، لا يمكن التنبؤ بها.
لا يزال فان جوخ هولنديا متغنيا في "بورتريه شخصي بقبعة مصنوعة من اللباد"، تم الانتهاء منها في كانون الثاني (يناير) عام 1887. يبرز الوجه من خلفية مظلمة، استخدم فيها أسلوب تشياروسكورو (استخدم التباين بين الظل والضوء في اللوحات الفنية) لنمذجة خد واحد في الضوء، وآخر في الظل، وتتوهج اللحية الحمراء: أنا المنحدر من مدرسة رامبرانت الفنية.
أحدثت الانطباعية، إلى جانب تألق باريس، تغيرات سريعة: البريق في "البورتريه الشخصي" المحفوظ حديثا (في ربيع 1887) من متحف كرولر مولر في أوتيرلو، هو شيء رائع. يرتدي فان جوخ بدلة أرجوانية شاحبة اللون تتباين في مظهرها مع شعره الناري. ويتردد صدى الحواف الحمراء حول العينين في صدرية الشريط الأحمر الدرامي الهيئة. ويبرز شخصه في اللوحة مقابل تباينات دقيقة مفعمة بالحيوية تتدرج من اللون الأخضر الفاتح إلى الأخضر الداكن.
كانت هذه مرحلة انتقالية. بعد ذلك تأتي ثلاثة رؤوس مرسومة من زوايا مختلفة، ينظر أحدها يسرة والثاني يمنة، بينما يحدق الثالث في الأمام تماما، وتقابله التواءات مكونة من النقاط المتحركة وضربات الفرشاة القصيرة. أكثرها صقلا، التي أتت من شيكاغو، تستخدم غمسات لامعة من اللون الأزرق المائي والأزرق الداكن، والخمري والأخضر كخضرة الغابة، للخلفية والمعطف، بينما تحدد العلامات الدقيقة، والرقيقة الوجه الزاوي.
كل هذا يسمح لنا بأن نتخيل فان جوخ في سن الـ34 يتسكع في مونمارتر، ويتصادق مع بول سينياك، الذي استوعب منه أحدث اتجاهات الفن في باريس، الفن التنقيطي. لقد تم تدشين هذا الأسلوب، الذي يجمع نقاطا من اللون النقي على الأسطح المضيئة، في عام 1886 من قبل جورج سورات، مع الشخصيات الثابتة على الضفة التي رسمها في لوحة "لا غراند جات"، التي تسببت في صيحات ساخرة. لكن فان جوخ كان يرى ما وراء تلك الصدمة، والطريقة المتعبة في التنقيط، بأنها ستقدم الإمكانات لأهدافه التعبيرية.
في لوحة "بورتريه شخصي بقبعة رمادية مصنوعة من اللباد" التي رسمها في الشتاء من أمستردام، و"بورتريه شخصي" لمتحف دورسي، يستبدل فان جوخ النقاط بضربات فرشاة طويلة ذات لون نقي يشع للخارج، وتظليل جريء بالخطوط المتوازنة، يجعل كل ميزة تتلألأ بطاقة التوتر التي كان يشعر بها. وتشكل البقع البرتقالية الموضوعة على خطوط زرقاء متدفقة هالة حول الرأس. كتب فان جوخ: "أود أن أرسم الرجال أو النساء بهذه اللامعرفة الأبدية، التي كانت الهالة رمزا لها، والتي نحاول تحقيقها من خلال الإشراق نفسه، من خلال حيوية ألواننا".
في ختام أعماله في باريس، وهي لوحة "بورتريه شخصي كرسام"، التي بدأ العمل عليها في كانون الأول (ديسمبر) عام 1887، استجمع فان جوخ كل ثقته لتصوير نفسه أثناء العمل. وصف في اللوحة "وجها رماديا ورديا وعيونا خضراء، وشعرا بلون الرماد، وتجاعيد في الجبهة وحول الفم، متصلبا بخشونة، ولحية حمراء جدا، وغير مشذبة وحزينة تماما، لكن الشفاه ممتلئة، مع قطعة قماش زرقاء من الكتان الخشن، ويحمل لوحا لخلط الألوان عليها اللون الأصفر الليموني، والقرمزي، والأخضر الفيروزي، والأزرق الداكن" - وهي الألوان التي أراد أن يجدد بها نفسه في باريس.
لقد رأى في ملامحه "وجه الموت"، لكن الصورة عبارة عن بيان: "بدلا من محاولة تقديم ما أرى تماما أمام عيني، أستخدم الألوان بشكل أكثر عشوائية من أجل التعبير عن نفسي بقوة". بعد مرور عام على تدشين البورتريه الشخصي المظلم، يتأرجح الباب موذنا بحلول القرن الـ20: "رسام المستقبل سيكون رساما بارعا في استخدام الألوان بشكل لم يحدث من قبل".
اعتقدت جو، زوجة ثيو، أن "البورتريه الشخصي كرسام" هي "أكثر ما يشبهه (...) لقد كنت أتوقع أن أرى فيها رجلا مريضا، لكن وجدت هنا رجلا قويا عريض المنكبين، وذا بشرة لونها صحي، وابتسامة على وجهه، ومظهر حازم للغاية. لقد بدا لي فيها أنه بصحة ممتازة، إنه يبدو أقوى بكثير من ثيو، لقد كان هذا أول ما فكرت فيه".
إن اللوحة التالية "بورتريه شخصي بأذن مضمدة" لمعهد كورتولد، تناقض كل الكلمات. ومع ذلك، في أعماق أزمته العقلية، وبعد التعافي من تشويهه لنفسه، وصل فان جوخ إلى أعلى مستويات التعبير. فالجسد مصمم بدقة، والكتل المسطحة ذات الألوان القوية والطباعة اليابانية البارزة التي تفوق التأثير غير الأوروبي كلها تؤكد هوية الرسام. قال فان جوخ: "إذا تعافيت (...) سيكون ذلك لأنني عالجت نفسي من خلال العمل" و"كلما أصبحت مشتتا، ومريضا، وكالإبريق المكسور، أصبحت أيضا فنانا مبدعا".
لا توجد لوحة أكثر ارتباطا بالحياة الخاصة، في صنعها وفي استجاباتنا، أكثر من لوحات فان جوخ. إننا نقترب من آخر بورتريهين شخصيين، من مصحة سانت – ريمي للأمراض العقلية، تم جمعهما معا لأول مرة منذ عام 1890، ونحن نعلم أن انتحار الفنان سيحين وقته. لكن فان جوخ لم يعلم. ويلمع في الزاوية، إلى جانب البورتريه الشخصي الذي رسمه بالاشتراك مع فنان آخر "كرسي فان جوخ"، اللون البني المخضر الخاص في أوسلو، البورتريه الشخصي المكتئب الذي رسمه في عام 1889، وهو جامح، وموحل، وغير لامع وعنيف – لقد استخدم فان جوخ سكين خلط الألوان لتسطيح ضربات الفرشاة.
لكن اللوحة التابعة لمعرض واشنطن الوطني للفنون، التي رسمت بعدها بأسبوع، تتميز بالبلورية والديناميكية، والرأس متوهج ضمن نمط منمق من الخطوط المتموجة كالدوامة، التي تذكرنا بـ"ستاري نايت"، وفيها نلاحظ أن تعبير فان جوخ بات أكثر هدوءا – تحوي الصورة سكونا يعيش داخل الاضطراب. إنها صورة تجسد النضال، والجمال وقدرة الفن على التسامي: وهي قمة عرض مثير وملهم.