Author

برامج الرؤية واستثمارات الثقة

|

يشهد الاقتصاد السعودي تحولات تاريخية وتطورا في مفاهيمه، وتناغما بين مكوناته بشكل لم يشهده في تاريخه الحديث من قبل، وهذا يظهر بجلاء في نمو الإيرادات غير النفطية جنبا إلى جنب مع الإيرادات النفطية، وفي المقابل هناك ارتفاع في كفاءة الإنفاق، مع زيادة في نسب التوظيف ليقترب عدد الموظفين السعوديين من مليوني عامل، فيما سجل الاستثمار الأجنبي المباشر المتدفق إلى السعودية مستوى قياسيا خلال 2021، إذ بلغ 23 مليار دولار، بارتفاع 326 في المائة، مقارنة بعام 2020 البالغ 5.4 مليار دولار.
ووفقا لتحليل نشرته "الاقتصادية"، استند إلى بيانات مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية "أونكتاد" والبنك المركزي السعودي، تجاوزت الاستثمارات الأجنبية خلال 2021، مجموع التدفقات للأعوام الثلاثة السابقة، إذ بلغت قيمها مجتمعة 14.2 مليار دولار، وهذا التدفق القياسي له دلالات اقتصادية لا تخفى وأيضا له منافع، وفي مقابله التزامات اقتصادية أيضا.
وتعد السعودية من هذا المنطلق من الاقتصادات المستشرفة للمستقبل، بما توفره من فرص غير مستغلة، وفرص استثمارية فريدة، فيما يدل هذا التدفق على استقرار الوضع الاقتصادي، والسياسي، والاجتماعي، والتشريعي، وهذا نتيجة عمل جبار يقوده ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، الذي انطلق برؤية المملكة العربية السعودية 2030 في واقع مليء بالتحديات، فأسعار النفط كانت تتراجع بحدة في سوق نفطية تعاني في جانب العرض فوضى عارمة تجعل التفكير في تحولات اقتصادية مغامرة، لكن العمل المنظم والثقة بالأدوات مكنا ولي العهد من قيادة السوق النفطية نحو اتفاق تاريخي نتج عنه تحالف "أوبك +"، ومن ثم تحسنت الأسعار تباعا.
كما تم العمل على إدخال تغيرات إصلاحية واسعة النطاق على الأنظمة والتشريعات، من بين ذلك تطوير نظام المنافسة والمشتريات الحكومية، وعدم ترك مساحات من الغموض في تفسير اللوائح، وتعديلات شملت التأشيرات وآليات عملها، كل ذلك تم بصورة منظمة مع مراقبة لترتيب السعودية في المؤشرات العالمية ما عزز الثقة في العمل، كما تم تحسين بيئة العمل ومعالجة قضايا شائكة حول عمل المرأة وتطبيق سياسة التمكين.
السعودية تشهد استقرارا في جميع الجوانب الاجتماعية، والسياسية، ما يجعلها ملاذا آمنا للمستثمرين وسط عالم ومنطقة مضطربة، وكل هذا العمل والإنجاز تأتي دلالاته واضحة في تدفقات استثمارية لم تشهدها من قبل، فوفقا لبيانات وزارة الاستثمار، قفز عدد رخص الاستثمار الأجنبي الجديدة خلال العام الماضي، 250.6 في المائة، ليبلغ 4439 رخصة في 2021 مقابل 1266 خلال 2020، فيما تصدر قطاع الجملة والتجزئة بما يفوق 44 في المائة من إجمالي عدد الرخص الجديدة خلال الربع الرابع من 2021، ثم قطاع الصناعات التحويلية 16 في المائة، وهذا له دلالة واضحة على نجاح معايير النتائج التي تحققت، أضف إلى ذلك جهود الحكومة السعودية لمواجهة ومحاربة ظاهرة التستر.
كما تبرز الآثار الاقتصادية لبرامج الرؤية التي من بينها برنامج تطوير الصناعة والخدمات اللوجستية، وكان لإيقاف التعاقد مع أي شركة أو مؤسسة تجارية أجنبية ليس لها مقر إقليمي في المنطقة في السعودية بدءا من مطلع 2024 أثر داعم في تدفق الاستثمارات الأجنبية، ويشمل ذلك الهيئات والمؤسسات والصناديق التابعة للحكومة أو أي من أجهزتها، وأثر واضح في قرارات الشركات العالمية، فالسوق السعودية تعد أكبر سوق في الشرق الأوسط، ولهذا فضلت 44 شركة عالمية الرياض مقرا إقليميا لها، وفقا لتقرير الوزارة.
لكن كما أشرنا، فإن هذا الواقع الجديد يفرض التزامات في مقابله، فقد ذكرت وزارة الاستثمار في تقرير "راصد الاقتصاد والاستثمار"، أنها نفذت 112 صـفقة باستثمارات قيمتها 50 مليار ريال خلال 2021، مع وجود إقبال متزايد ورغبة المستثمرين في توسيع استثماراتهم القائمة، فتدفق الاستثمارات للداخل السعودي يضمن أن المنتجات والخدمات الرئيسة التي يتم تنفيذها تأتي بمحتوى محلي مناسب، وهو ما يجعل الصناعة المحلية وقطاع الخدمات اللوجستية خاصة، والخدمات عامة، تعمل بوتيرة أكبر لتطوير أدواتها ومهاراتها بشكل يتناسب مع تطلعات المستثمر الأجنبي.
الاقتصاد السعودي رغم وضع المحتوى المحلي في صدارة الاهتمامات، من خلال أنظمة وهيئات مراقبة، وحوكمة عالية المستوى، إلا أن الحكم الأخير هو للجودة والتنافسية، ولهذا أشارت الوزارة في تقريرها إلى أن هذا القرار لن يؤثر في قدرة أي مستثمر على الدخول في الاقتصاد السعودي، أو الاستمرار في التعامل مع القطاع الخاص، وسيتم إصدار الضوابط المتعلقة بذلك خلال العام الجاري.
تأتي حركة الاستثمار في الداخل السعودي متوافقة عموما مع حركة التدفقات العالمية، وفي مجملها مبشرة بعودة الاقتصاد العالمي للنمو من جديد، والخروج النهائي من الأزمة الصحية على الرغم من بقاء عدد من الآثار الجانبية لها، وأن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر العالمي قفزت 77 في المائة إلى نحو 1.65 تريليون دولار، متجاوزة مستوى ما قبل الأزمة الصحية.
ولكن هذا التدفق غير متوازن عموما، فبينما سجلت الاقتصادات المتقدمة أكبر ارتفاع حتى الآن بثلاثة أضعاف مستواها في 2020، نجد أن تدفقات الاستثمار الأجنبي المباشر في الاقتصادات النامية نمت 30 في المائة لتصل إلى نحو 870 مليار دولار، مع تواضع في الانتعاش للاقتصادات الأقل نموا. هذه المقارنة العامة، وفي ضوء التدفقات القوية إلى السعودية، تضع الاقتصاد السعودي ضمن دول العالم المتقدمة في مؤشرات النمو والثقة الاقتصادية.

إنشرها