Author

ابن تيمية والتسعير

|
كبير الاقتصاديين في وزارة المالية سابقا
هل يحق شرعا للسلطات أن تسعر أو تضع قوانين تسمح بالتسعير؟ وطرح السؤال بهذه الصيغة يتضمن أن الأصل أن الناس أحرار في أموالهم.
وإذا كان جواب السؤال نعم، فهناك أسئلة تتبع، من قبيل علام وكيف يجري التسعير؟
من يطلع على ما كتب في الكتب الفقهية عن التسعير، يجد أن الرأي الأغلب هو منع التسعير إلا عند الحاجة. ويتفرع من رأي الأغلبية السؤالان التاليان: ما الحاجة؟ وهل تجيز أم توجب التسعير؟
الإجابة تابعة لفهم طبيعة وعمل الأسواق والسلع. وبعد عصر الثورة الصناعية، فإن علم الاقتصاد يسهم وبقوة في تنوير الفقهاء (وأهل القانون وغيرهم) بجوانب اقتصادية في طبيعة أنواع وعمل الأسواق والسلع إنتاجا وبيعا. وتبعا مطلوب فهمها قبل إعطاء فتوى.
أما قبل عصر الثورة الصناعية، فلعل أشهر من ناقش موضوع التسعير الإمام العلامة ابن تيمية، وتلميذه الإمام ابن القيم - رحمهما الله تعالى -. ومن يرغب في التوسع فله الرجوع إلى كتاب «الحسبة» لابن تيمية، وكتاب «الطرق الحكمية» لابن القيم. وتكلم الشيخان في كتابيهما عن التسعير وتصرفات تجارية أخرى كثيرة غير مشروعة. وعرف عن ابن تيمية، خصوصا، سعة علمه وتبحره في علوم كثيرة.
الإمام يرى التسعير عند الحاجة، وجوبا أو جوازا. ذلك أن الله - سبحانه - يأمر بالعدل وينهى عن البغي والظلم، وممارسة التجارة قد ينشأ منها إخلال بالعدل وإجحاف.
إذا عرف ذلك، فإن النقاش يتوجه إلى الدخول في تفاصيل للتعرف على الحاجة. مثلا ما حدود هذه الحاجة؟ كيف نعرف أن ما يطلب تسعيره يباع بأسعار فيها ظلم واستغلال أو استغفال للناس؟
هذه القضايا وأمثالها لم يرد أولا بشأنها تفصيل أو تحديد من الشرع. وثانيا لمستوى التطور الصناعي والتقني علاقة قوية بالأمر. ولذا فإن مصدر العلم بطبيعتها وتفاصيلها هو دراسة الأسواق وطبيعة السلع عبر النظر والدراسة والبحث ورأي ذوي الخبرة والاختصاص، حيث لها دور كبير فهم الحاجة، وفي تقدير أو تحديد السعر عندما يقتنع بوجود حاجة إلى التسعير.
دراسة الأسواق جزء من دراسة الدنيا أو الكون بالمعنى الواسع. ومن حق علماء الشريعة التعرض لقضايا مصدر العلم بها الكون وليس الوحي. لكن هذا الحق لا يعني أنهم أولى من غيرهم في فهمها.
واستنادا إلى التوضيح السابق، أنقل هنا بعض أهم ما قاله ابن تيمية عن التسعير، ثم أعلق عليها في ضوء التخصص الاقتصادي: "فإذا كان الناس يبيعون سلعهم على الوجه المعروف من غير ظلم منهم، وقد ارتفع السعر، إما لقلة الشيء وإما لكثرة الخلق، فهذا إلى الله، فإلزام الخلق أن يبيعوا بقيمة بعينها إكراه بغير حق ... وإذا تضمن العدل بين الناس مثل إكراههم على ما يجب عليهم من المعاوضة بثمن المثل، ومنعهم مما يحرم عليهم من أخذ زيادة على عوض المثل‏‏ فهو جائز، بل واجب‏".
بعض كلام المؤلف - رحمه الله تعالى - هو من الفقه بمعناه الاصطلاحي، وبعضه ليس كذلك، وهو موضع الاهتمام هنا:
قوله "الوجه المعروف ... عوض المثل"، ليست لها حدود مقدرة، ومعايير محددة شرعا، ولذا فإن الفقهاء بحاجة إلى من يفيدهم في معرفة وتقدير الوجه المعروف وعوض المثل ونحو ذلك. وأقول هذا لأن بعض الناس يخلط بين معرفة المبادئ ذات العلاقة (مثل وجوب العدل وتحريم الظلم والغش والاستغفال) وبين تطبيق هذه المبادئ على الواقع المستلزم الرجوع إلى العرف والخبرة و/أو المعرفة الفنية.
قوله: "ارتفع السعر إما لقلة الشيء، وإما لكثرة الخلق"، واضح أنها تفسيرات لأسباب ارتفاع السعر. ومثل هذه التفسيرات تدرس بعد الثورة الصناعية تفصيلا في التخصص الاقتصادي.
تفسيرات المؤلف - رحمه الله - تعد نظرة منه في فهم عمل الأسواق. وهي نظرة تدل على سعة فهم وقوة ملاحظة، ويجب أن تقرأ تلك التفسيرات في إطار الفهم السائد آنذاك لآلية السوق، مأخوذا بعين الاعتبار بساطة الحياة، خلاف أنه (ابن تيمية) لم يكتب أصلا بهدف شرح عمل السوق بالبسط والتفصيل.
وقوله "كثرة الخلق" تعد عبارة مجملة من وجهة علم الاقتصاد، حيث المعول هو على زيادة الطلب (أي: إن منحنى الطلب انتقل من مكانه في التحليل الجزئي)، وزيادته غالبا بسبب زيادة الدخل، وقد يحدث هذا دون زيادة عدد الناس، مثلا بسبب تحسن التقنية، أو زيادة متوسط إنتاجية العامل الواحد. لو جلب النمو السكاني زيادة دخل، فقد تكون الزيادة في الدخل أعلى أو في الناس (نمو السكان) أعلى. وقد يزيد الدخل (الحقيقي) بمعدلات أقل من زيادة السكان، ومن ثم يقل المستوى المعيشي لأغلب السكان. ويحدث غالبا تغيير في نمط الاستهلاك، بما يزيد الطلب على سلع، وغالبا تعمل هذه الزيادة على رفع أسعارها، وبالمقابل، يقللها على سلع أخرى، وقد يخفض أسعارها.
كما أن السعر قد يرتفع في بلد من الدول دون ظلم من الناس في تلك البلد، لسبب خارجي مثل انخفاض سعر الصرف، و/أو ارتفاع سعر واردات ذات علاقة. وقد يختلط العاملان الظلم والسبب الخارجي، ما يتطلب عمق بحث وفهما بحيادية وعدل.
وباختصار، السعر في البحث الاقتصادي النظري والتطبيقي يخضع لعمل قوى كثيرة في وقت واحد، ولا بد من التعرف عليها وفرزها. وإذا كان ارتفاع السعر مستمرا، وأصاب المستوى العام للأسعار، فيسمى التضخم inflation. وتتطلب فهمه دراسة عوامل وعلاقات بينها، مثل العلاقة بين عرض النقود والمستوى العام للأسعار. وظهرت أهمية دراسة هذه العلاقات بعد ظهور الثورة الصناعية والنقود الورقية. والموضوع من وجهة التحليل الاقتصادي طويل.
إنشرها