ثقافة وفنون

القراءة الذكية تنقذ الإنسان من نفسه

القراءة الذكية تنقذ الإنسان من نفسه

طقس القراءة أشبه بالتأمل، تلك الهدنة المفاجئة بعد صخب النهار.

القراءة الذكية تنقذ الإنسان من نفسه

دانيال بناك

اختار الفرنسي دانيال بناك أن يستقبل القارئ بعبارة "رجاء "أتوسل إليكم" لا تستخدموا هذه الصفحات كوسيلة تعذيب تربوي"، في كتابه "متعة القراءة" الذي نقله أخيرا، بعد مضي أزيد من عقدين عن إصداره "1992/2015"، إلى العربية يوسف الحمادة عن منشورات "دار الساقي". وعزز هذا الاستقبال بأربعة فصول حملت عناوين "ولادة الكيميائي" ثم "يجب أن تقرأ"، ف"التشجيع على القراءة"، وأخيرا "ما الذي سيقرؤه الآخرون؟".
يكتشف قارئ الكتاب أن الأقدمية الزمنية من حيث التأليف لم تؤثر في مضمون الكتاب، بل زادته راهنية بالنظر إلى التحديات التي تواجه فعل القراءة في زمن البلاء التكنولوجي والثورة الرقمية. ففي زمن تسعيني، وقبل غزوة وسائل التواصل الاجتماعي، تحدث الكاتب عن دور التلفزيون، وحتى السينما، في "إفساد العقل الفتي، وتخريب الذهن، وتحطيم النبوغ لدى البعض من الطلبة". فالفيلم يعطيك كل شيء، إنه يفرض عليك السلبية الأكثر حيادية، "لا شيء تحصل عليه بمجهودك، كل شيء يقدم لك على طبق: الصورة، الصوت، الديكور الموسيقى المرافقة...".
نقيض القراءة التي تشكل فعلا مسؤولا، وتدفع صاحبها دوما نحو التخيل، ما يجعلها فعل خلق دائم. وقد تتحول إلى فعل مقاومة، فالكتاب فكرة جميلة، والمكتبة الإنسانية في حاجة إليه، لمقاومة الهيمنة التكنولوجية في تلقي المعرفة. وبقية العوارض الممكنة، اقتصادية أو مهنية أو نفسية أو عاطفية أو عائلية أو مرضية أو أيديولوجية أو ثقافية، أو نرجسية...
يؤكد الكاتب أن القراءة الذكية قد تنقذ الإنسان من كل شيء، حتى من نفسه. فقد "شكلت الدراسة بالنسبة إلي علاجا عظيما ضد أشكال القرف، فلم يصبني حزن ما إلا وانتشلتني منه القراءة". وذهب إلى حد القول "إننا نقرأ لمقاومة الموت بطريقة ما". يبقى هذا القول مجرد ترجمة، بمفهوم المخالفة، لوصية جوستاف فلوبير إلى صديقته لويز كولي "اقرئي لتحيي".
وترتقي القراءة لدى الكتاب إلى منزلة الوجوب، نعم "يجب أن نقرأ، يجب أن نقرأ! كي نتعلم، كي نعلم ما يجري في العالم، كي نعلم من نحن، كي نعرف الآخرين بشكل أفضل، كي نعلم إلى أين نمضي، كي نحافظ على ذاكرة الماضي، كي نضيء الحاضر، كي نستفيد من الخبرات السابقة، كي لا نكرر أخطاء من سبقونا، كي نبحث عن معنى الحياة، كي نفهم أسس حضارتنا، كي نتسلى، كي نتواصل، كي نمارس فكرنا النقدي".
يتحدث المؤلف عن القراءة كمتعة قبل كل شيء، ويراها "فعلا إراديا حرا، لا وسيلة تعذيب تربوي"، ويتطرق إلى ملكة القراءة، باعتبارها "هواية قد نمارسها أو نتجنبها". وينبه إلى أن فعل "قرأ" لا يتحمل صيغة الأمر. لأن في ذلك اشمئزازا تشاطره إياه عدة أفعال أخرى كفعل "أحب" وفعل "حلم"... ويضيف للتوضيح "اصعد إلى غرفته واقرأ! والنتيجة؟ لا شيء".
يعرج على أسباب ابتعاد الأطفال عن القراءة، ويبحث في حيثيات الجفاء الواقع في هذه العلاقة، ليكتشف أن الأمر نتيجة طبيعية لتحولها إلى فروض وواجبات، وافتقادها إلى عنصر المتعة والحميمية. يعود إلى مرحلة الطفولة، حيث كانت القصص والحكايات التي يرويها الأهل للطفل قبل النوم "تفتح عينيه على التنوع اللانهائي للأشياء الخيالية"، حتى بات من المستحيل أبدا، أن نفهم ولدا غارقا مساء في خضم قصة آسرة، أن يفهم بحجج تتعلق به وحده أن عليه أن يقطع قراءته، ويذهب إلى النوم.
ذلك عائد بكل بساطة إلى كون "طقس القراءة أشبه بالتأمل، تلك الهدنة المفاجئة بعد صخب النهار، تلك اللقيا خارج كل الحوادث المحتملة، ذلك الصمت القدسي قبل أول كلمات القصة". هكذا تزيح القراءة المسائية ثقل أعباء اليوم، لدرجة تصبح أشبه بقارب تخلص من الحبال التي تشده إلى الشاطئ، حيث ينطلق مع الريح، وقد تخفف من كل أعبائه.
يلخص في قوله "لقد فتحنا عينيه على التنوع اللانهائي للأشياء الخيالية، وعرفناه على فرح السفر العمودي، وزودناه بالقدرة على أن يكون في كل مكان، وخلصناه من سلطة الزمان على أن يكون في كل مكان، وجعلناه يغطس في عزلة القارئ المسكونة بتعدد عجيب".
يرى الكاتب أن وسائل الإلهاء عنصر أساسي في ابتعاد هذا الجيل عن الكتاب، لكن هذا لا يسقط مطلقا مسؤولية المدرسة. فعدم ملاءمة البرامج المدرسية، وعدم كفاية المدرسين، وقلة المكتبات، وضآلة الحصص المخصصة للكتاب... كلها عناصر أسهمت، بنسب متفاوتة، في "فقدان الحميمية بين التلميذ والكتاب، ولم تعد القراءة مجانية بل وجب أن تدر مردودا وفائدة فوريين، وفق ما تقتضيه العملية التربوية".
لا يمكن للمدرسة أن تكون مدرسة استمتاع، من منظور بناك، لأن المتعة تتطلب قدرا لا بأس به من المجانية، بينما المدرسة مصنع ضروري للمعرفة التي تتطلب الجهد. على هذا الأساس، لا يتردد في التأكيد أن "كل ما أملك من ثقافة أدبية، حصلت عليه خارج المدرسة"، فالظاهر - بحسبه دائما - أن هناك اتفاقا أزليا، وفي كل بقاع العالم، على أن المتعة لا مكان لها في المناهج المدرسية، وأن تحصيل المعرفة لا يتم إلا عبر عذاب يتفهمه الجميع.
في معرض دفاعه عن القراءة، يتحدث المؤلف عن الحقوق الأبدية للقارئ، فيما يشبه تأكيدا ضمينا لمقولة مستهل الكتاب، وهي من وجهة نظره: الحق في عدم القراءة، والحق في القفز على الصفحات، والحق في عدم إنهاء كتاب، والحق في إعادة القراءة، والحق في قراءة أي شيء، والحق في القراءة بصوت عال، والحق في أن نصمت.
فيما يشبه التنبؤ لما يجري في الواقع المعاصر، تحدث الكاتب عن أن "القرن الـ20 قرن رؤية" (يقصد صورة) بشكل مبالغ فيه؟ والقرن الـ19 وصفي بشكل مبالغ فيه؟ ولماذا لا يكون القرن الـ18 عقلانيا جدا، والـ17 كلاسيكيا جدا، والـ16 نهضويا جدا... كما لو أن العلاقة بين الإنسان والكتاب بحاجة إلى قرون، حتى يبتعد أحدهما عن الآخر".
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون