Author

الفرد .. المسؤول الأول عن حماية استقراره المالي

|
عضو جمعية الاقتصاد السعودية
مع عدم إغفال المسؤوليات التي تقع على الأجهزة المعنية بالمحافظة على الاستقرار المالي للأفراد التي يقف في مقدمتها البنك المركزي السعودي على مستوى التمويل الممنوح من البنوك ومؤسسات التمويل على اختلاف أنواع التمويل، والجهات التمويلية -بنوك، مؤسسات تمويل- التي تتولى منح جميع أنواع القروض المختلفة ومتعددة الأغراض، إلا أن المسؤول الأول في هذا المقام يظل هو الفرد نفسه.
كثيرون هم من تجدهم قد أفاقوا على صدمة قرارات الحصول على مثل تلك القروض التي تستقطع الجزء الأكبر من دخلهم الشهري، وهي الصدمة التي تأتي مبكرا مع أول استقطاع شهري، بمعنى أن الصدمة هنا تأتي في وقت مبكر جدا، وليست كما ضربت الأمثال أنها أتت في وقت متأخر، حينما يصطدم عديد من المقترضين لأي أسباب كانت أن الجزء الأكبر من دخلهم الشهري قد طواه الاستقطاع البنكي إلى غير رجعة، وأن ما تبقى له من جزء محدود من دخله، هو فقط المتاح للإنفاق في مواجهة مختلف متطلباته المعيشية له ولأسرته.
يمكن تفهم أكبر جزء من الأسباب والدواعي التي اضطرت شخصا ما إلى الاعتماد على تلك القروض في الأجل القصير لأجل الوفاء بالالتزامات الأسرية وغيرها التي لا تحتمل التأخير من قبله، وقياسا على أن متطلبات الالتزام المالي تجاهها، يمكن التكيف معها لفترة زمنية لا تتجاوز خمسة أعوام على أبعد تقدير، في حين قد يكون الأمر أكثر صعوبة بحال امتدت تلك المتطلبات لفترات زمنية طويلة جدا، كأن تمتد إلى 20 عاما وأكثر كما هو قائم في حالة القروض العقارية، ويزداد الأمر صعوبة على المرء كلما ارتفعت نسبة الاستقطاع من الدخل الشهري، خاصة إذا ما تجاوزت 50 في المائة من صافي الدخل الشهري، وتصبح أكثر تعقيدا إذا ما تجاوزت نسبة الاستقطاع 65 في المائة فأكثر.
قياسا على حالات كثير من الأفراد الذين أصبحوا متورطين في شراك تلك التعاقدات التمويلية طويلة الأجل، وسؤالهم عن أيهما كان أكثر صعوبة عليهم على مستوى استقرارهم المالي والاجتماعي، قبل تلك التعاقدات التمويلية المكلفة أم بعدها؟ وجاءت الإجابة اللافتة، أنها بعد تلك التعاقدات التمويلية المكلفة جدا، وأن أمنيتهم مستحيلة التحقق هي العودة معيشيا إلى ما قبل تلك التعاقدات.
يجب التأكيد هنا أن الخطأ الجوهري في هذا السياق، ليس في الاقتراض بغض النظر عن نوعه، إنما الخطأ الفادح يكمن في قبول الفرد المقترض باستقطاع نسب مرتفعة جدا من دخله الشهري لأعوام طويلة من حياته الوظيفية، وهذا أمر لا تغيب حقيقته عن فهم طبيعة الحياة المعاصرة التي فرضت على الأفراد والمجتمعات أنماطا معيشية مختلفة تماما عن أنماط حياة من سبقهم من الأجيال، وأنها رغم ثقل أعبائها المالية ضمن الحدود المقبولة، سواء من حيث الدخل المتاح أو المدة الزمنية، إلا أنها في المقابل أسهمت في تسهيل وتحسين الظروف المعيشية لكثير من الأفراد الذين اشتركوا في حسن التصرف والتدبير واتخاذ القرارات المالية المرتبطة بتلك التعاقدات التمويلية على اختلاف أنواعها.
بناء عليه، ليس خطأ في ذاته أن يضطر المرء إلى الاقتراض لأجل شراء ما قد يراه أمرا ملحا كسيارة أو مسكن أو خلافه، وأن يكون قادرا دون عناء معيشي كبير على كاهله على الوفاء بالتزامه المالي تجاه تلك التعاقدات التمويلية، في حين أن الفرد سيكون قد أدخل نفسه في دوامة معيشية بالغة التعقيد، إذا ما تجاوز حدود الاستجابة اللازمة لأمر معيشي محتوم، إلى ما هو أصعب من ذلك وأكثر تعقيدا. فالسيارة أو المسكن أو أي أمر معيشي مهم آخر بحال أمكن الحصول عليه عبر تلك التعاقدات التمويلية بما لا يتجاوز 25 إلى 30 في المائة كحد أقصى من الدخل الشهري، تظل مسؤولية الالتزام على الفرد المستفيد هنا أقل بكثير مما لو زادت تلك النسب إلى أعلى من أضعافها، وسيكون في قدرته أن يواجه متطلباته المعيشية المستقبلية على نحو أدنى من التحديات، مستندا إلى احتفاظه بما تراوح نسبه بين 75 و70 في المائة من دخله الشهري.
بينما سيكون في ورطة مالية ومعيشية غير محسوبة العواقب، إذا ما تجاوز الحدود المالية المقبولة بناء على مستوى دخله الشهري، ليتورط في تحمل أعباء سداد أقساط قد تستقطع النسبة الأكبر من دخله الشهري، كتلك التي تتجاوز نسبة 60 في المائة فأكثر، وتزداد المسؤولية على الفرد الذي كان بإمكانه الحصول على حاجته المعيشية -سيارة، مسكن- بتكلفة أقل، إلا أنه لأسباب سرعان ما سيكتشف هشاشتها وسرابها مع أول استقطاع بنكي قاس عليه، فالسيارة أو المسكن الذي كان بإمكانه الحصول على أي منهما بما لا يتجاوز استقطاعه 30 في المائة من صافي دخله الشهري، إلا أنه اختار الأغلى وبما لا يتوافق مع حدود دخله، قد أصبح فيما بعد نادما أشد الندم على تجاهله قدرته الحقيقية، وانجرافه خلف ما يفوقها بنسبة كبيرة.
والأمر كذلك حتى بالنسبة لمن قد يواجه أسعارا أكبر من حدود ما سبق ذكره أعلاه، خاصة فيما يتعلق بالمساكن التي تضخمت أسعارها السوقية خلال الفترة الراهنة بصورة غير مسبوقة، فقد لا يجد مسكنا يمكن اقتناؤه وفق المعطيات المذكورة أعلاه "بما لا يتجاوز استحقاق سداد أقساطه الشهرية 30 في المائة من صافي دخله الشهري"، وهذه حقيقة مشاهدة في واقعنا الملموس خلال الفترة الراهنة، إلا أنه لا بد من الإشارة في هذه الحالة إلى أن الأوضاع الراهنة لن تدوم على ما هي عليه، وهذا من طبيعة الأسواق عموما، أن تمر بفترات رواج سعرية سرعان ما يتلوها فترات ركود سعرية، إضافة إلى ما تخضع له السوق العقارية خلال الفترة الراهنة من إصلاحات تستهدف التصدي لتلك الموجة التضخمية الراهنة التي يمكن للمرء في ضوء ما تقدم أن يؤجل لفترة زمنية لن تطول قرار الشراء إلى حين جني ثمار تلك الإصلاحات، والقرار هنا بالطبع مسؤولية الفرد أولا وآخرا، إنما يجب التأكيد أن تحمل أي تحديات معيشية طوال فترة الانتظار، يظل أدنى بكثير من تحمل التحديات المعيشية طويلة الأجل بحال قبل الفرد أن يتم استقطاع ثلاثة أرباع دخله الشهري أو أكثر.
ختاما، مع التأكيد على ما ذكر في مقدمة المقال من أن مسؤولية المحافظة على الاستقرار المالي جزء لا يتجزأ من مهام وأعمال الأجهزة المعنية في هذا الشأن، وفي مقدمتها البنك المركزي السعودي، إلا أنه لا بد من التأكيد أيضا على المسؤولية الملقاة على كاهل الفرد عن حماية استقراره المالي، وأن يعمل جاهدا على عدم توريط نفسه في أي تعاقدات تمويلية تفوق قدرته على الوفاء بسدادها، وأن يعمل على هذا المنهجية مهما كلفه الأمر، ويتأكد أن تكيفه مع تلك المنهجية تظل مصاعبها أدنى بكثير من المصاعب التي تنتظره بعد توقيعه على ما يفوق قدرة دخله.
إنشرها