Author

تنمر الأذكياء على الأذكياء

|
من ممارسات التنمر المعروفة التنمر على الأذكياء والمجتهدين على المختلفين الذي يتفوقون على أقرانهم في مكان الدراسة أو العمل. ربما سمعنا أو ذكرنا مفردة "دافور"، أو عايشنا مواقف مورست فيها السخرية والاستنقاص ممن يتقدمون في مجال ما. بل يستنقص الناس أحيانا من العلماء والقادة والأذكياء وهذا أمر معروف. ولذلك تفسير علمي سيأتي ذكره. ومن المشاهد حديثا، المبالغة في نقد تصرفات يراها الناقد تستحق النقد، لكنه يفجر في ذلك حد التنمر. وأرى الأمر ينقلب من مجرد فجور في الخصومة إلى التنمر عندما يرافقه ما يزيد على النقد المعقول ويصل إلى حد النقد غير الموضوعي ويتجاوز حتى ذلك، فهو ليس فقط فجورا في النزاع أو الخصومة، وإنما يتجاوز ذلك إلى العنف اللفظي والسخرية التي تباشر متلقيها بشكل متكرر ومستهدف.
من الأمثلة في هذا الأمر، مشاهدتي شابا حاول نصح متابعيه وابتكار طرق خارجة عن المألوف لتعلم اللغة الإنجليزية في وقت قصير نسبيا، وهذا أمر ليس جديدا ولا مستحيلا، وله منتقدوه الذين يفضلون الطرق التقليدية ربما. لكن هناك عدد من الأشخاص الذي بالغوا في ذم هذا السلوك فتجد سخرية تنكر مصداقية النصيحة بأسلوب ساخر متكرر وتجاوز لفظي لا يستند إلى تسبيب واضح أو منطقي. يحدث هذا دون أن يقدر الناقد تأثير نقده الساخر في متلقي النقد أو على فرص المستفيد المحتمل من النصيحة. ومثل ذلك الجرأة والتعليق المتكرر على الممارسات الشخصية التحسينية مثل التطوير الذاتي ومدربيه، ورغم أن نقد الممارسات الخاطئة في التطوير الذاتي حق لمن يريد أن يقوم بذلك، بل هو مطلب لكشف ونبذ ما لا يفيد ولا ينفع، إلا أن المبالغة في ذلك وباستهداف أشخاص أو ممارسات محددة دون نقاش موضوعي مبني على أسلوب علمي أو ثقافي واضح، ينقل الحديث إلى ساحة أخرى مختلفة الغرض والتأثير.
ستجد كثيرا من الأمثلة التي تصنعها لنا نقاشات وحوارات التواصل الاجتماعي عند معالجة اختلاف بين مثقفين أو مجموعات مختصة، خصوصا عندما تحدث المواجهة بشكل غير مباشر، يعتقد بعضهم أن غياب الطرف الآخر في النقاش المباشر يسمح له بالتجاوز اللفظي بالمفردات أو المعاني. سرعة الرسائل وسرعة وصولها يجعل الاستمرار في القيام بالأمر يجمع شروط مثلث التنمر وهي العنف والتكرار والضرر. من الخطأ الظن أن عدم مباشرة النقاش مع صاحب الشأن لا يجعل المتحدث في مواجهة أو نزاع أو تأثير في صاحب الشأن المنتقد أو أفكاره.
تمثل هذه السلوكيات عملية شخصنة دون تسمية الأشخاص، وتنمرا لكسب الجماهير، واتباعا للجموع ومتابعتها. وتعد هذه الدوافع نفس دوافع تنمر المدارس التي وصلت إليها الأبحاث العلمية. إذ إنها تذكر أن التفوق يحدث كسمة فردية في مجموعة من الطلبة، وتشكل ضغوط التعليم المرتبطة بمنحنى الدرجات وترتيب الأوائل إلى وجود أفراد محدودين خارجين عن المجموعة ومجموعة أكبر متوسطة الأداء، ولهذا يتحول التفوق إلى أمر غير مرغوب فيه بحثا عن التبعية وحماية المجموعة وما إلى ذلك، ما يحفز التنمر على القلة المتفوقين. يقوم التنمر في مفهومه التقليدي على احتكاكات مباشرة بين الأفراد في المدرسة أو بيئة العمل. يعتقد البعض أن التجاوز الذي يحصل دون مباشرة النقاش مع صاحب الشأن يحميه من الوقوع في دائرة التنمر.
تستدعي حالة قنوات وأساليب التواصل الحديثة توسعة تعريف التنمر ليشمل حماية الأفراد من هذا الهجوم غير المباشر الذي لا يستند إلى الموضوعية وقد يسبب خسائر تشابه خسائر التنمر المعروفة، من الأذى النفسي أو تهشم المكاسب أو تدمير الحوافز. ومما يثير في هذه الجوانب أن هذا النوع من السلوك غير العادل يحدث أحيانا من مشاهير أذكياء أو مثقفين على قدر من الاحترام لدى متابعيهم. هم يستخدمون سخريتهم اللاذعة المبنية على ذكائهم في مجالهم أو مخزونهم الفني في مجال اهتمامهم للإطاحة بفكرة أو صاحب فكرة باستخدام الهمز واللمز، فلا بينة ولا برهان، ولا مناقشة عميقة ولا جدل موضوعي. ما يجعل كثيرين يستهينون بهذا الأمر، إنه لفظي افتراضي غير منطوق، وكأنه مجرد تغريدات قابلة للنسيان. لكن الكلمة كلمة عندما تخرج، مكتوبة كانت أو منطوقة دائما سيشملها المثل: "رب كلمة قالت لصاحبها دعني" وإن لم تسمعها الأذن.
إنشرها