Author

حياة الأحياء

|

متى يصبح الحي الذي تسكنه قديما؟ لا يوجد معيار اجتماعي أو شعبي. أكثر معايير الحكم يطلقها العقاريون وأصحاب المخططات الجديدة، وبعضهم يعد أن حيا مضى عليه عقدان من الزمن قديم، وأن "البرستيج" أو التطور يحتم الانتقال إلى الأحياء الجديدة.
تأمل في واقع المعادلة، تسكن في حي للتو نشأ، تنتظر الصرف الصحي، وتنتظر اكتمال رصف الشوارع، ثم تشجيرها، ثم تنتظر اكتمال الخدمات في الشوارع التجارية للحي، ثم إنشاء المدارس، وما إن تنتهي هذه الدورة التي لا تقل في الأغلب عن عشرة أعوام حتى يبدأ السماسرة في إشاعة فكرة أن هذا الحي قديم.
قرأت أكثر من قصة وتقرير ترتكز على أن البعض عادوا إلى ترميم منازلهم أو هدمها وبنائها نتيجة ارتفاع أسعار الأراضي، وأحسب أن هذا ليس السبب الوحيد، بل إن هؤلاء هم العقلاء الذين أدركوا قيمة اكتمال المنظومة في الحي، قيمة البعد الاجتماعي، والاقتصادي للاستقرار، وقارنوا بين حيهم الحالي، وذلك الذي يسوق له، فوجدوا أن كل ما ينقص الحي الجديد موجود بالفعل في حيهم.
هي ليست أحياء قديمة، هي أحياء حية بالذكريات والقصص، أحس أن فيها روحا ليست في الأحياء الجديدة، فعندما أعود - مثلا - إلى أحياء السليمانية والورود، حيث سكنت مستأجرا لفترة ليست قصيرة، أشعر بعلاقة عميقة مع الشارع والمتجر والمسجد، وإحساس عاطفي جميل.
تلك الأحياء فيها قصص المدرسة، والجيران، والشباب، وفيها عبق أصيل تراه في الأشجار حتى الأحجار التي تزداد جمالا كلما ازدادت عتقا، وكأن جذور تلك الأشجار هي جذورك المدنية.
سكن الإنسان في مكان يكرس علاقة ألفة مع ذلك المكان، وهذه الألفة تزداد مع الزمن، وتتعمق مع اختلاف ألوان الانتفاع المادي والنفسي والاجتماعي من المكان ومكوناته الذي هو اليوم للإنسان العصري الحي السكني في مدينته.
بالحديث عن الرياض مثلا، كثير من الأحياء التي صنفت ذهنيا بأنها قديمة شوارعها فسيحة ومساحات بيوتها كبيرة، وهي ميزتان قلما تتوافر في الجديد، وإذا توافرت كانت بأسعار ليست في متناول الطبقة الوسطى، وهناك نقطة مهمة هي أن المفاجآت في هذه الأحياء قليلة لأنها شبه مكتملة، ولن يفاجئك مشروع صحي أو تعليمي أو تجاري أو جهة ما، تجعل من الجزء الذي تسكن فيه من الحي الجديد فاقدا لصفته "السكنية" الهادئة. أنا لا أتحدث عن أحياء شعبية أو عشوائية، أتحدث عن مخططات منظمة جميع مبانيها مسلحة، وخدماتها حديثة بمقاييس المدن، والأمثلة عليها كثيرة ومعروفة.

إنشرها