تعلم المنظمة .. واقع جديد ومختلف
تنجح المنظمات بقدر ما تعرف. فالمعرفة تنقل واقع المنظمة من حال إلى حال إذ تهيئ لها النموذج الناجح وتكشف المسارات المتاحة وتمكن من صناعة القرار المؤثر. وفي عالم الأعمال اختلفت أخيرا المعادلة بشكل كبير، فهناك كم هائل من المعرفة المتراكمة والمتجددة التي تغير من قواعد اللعبة، وهناك عدد متزايد من المتقدمين والمتأخرين. وإذا حاولنا تبسيط ما نقصده بالمعرفة هنا، فهي كل ما يمكن اختزاله في سجلات المنظمة الحقيقية والاعتبارية، ابتداء مما تعرفه وتوثقه بشكل جيد، وما تعرفه لكن لا يتم توثيقه، وما هو موجود في عقول موظفيها من أعلى الهرم حتى أصغر موظف. ولهذا يكمن التحدي في هذه المسألة حول إدارة المعرفة المؤسسية بشكل يعد للمتغيرات المستمرة التي لا تتوقف عن التغير ويكاد لا يكون لها شكل وملامح واضحة.
هناك جانبان يمسان مسألة التعلم بشكل واضح في البيئة المحلية الحالية: استخدام البيانات في صناعة القرارات، وهي في مرحلة متأخرة أو على الأقل متفاوتة بشكل مخيف، والثانية تنقل الموظف السريع الذي يضعف من الخبرة التراكمية المفيدة. ولو دققنا النظر في المسألة الأولى، لوجدنا أن المعادلة البسيطة تقول: قس ما تفعل ويفعل منافسوك، اجمع هذه البيانات وكون كيان المعرفة الملائم الذي يجب أن تستند إليه استراتيجيا وتشغيليا في كل قراراتك. لكن ما يحصل اليوم بعيد جدا، إذ إن المنشآت المحلية على اختلاف مستوياتها قلما تجيد ضبط هذه المعادلة. لو نظرنا فقط إلى استخدام المعلومات المالية لوجدنا كثيرا من الفراغات التي تجعلنا نتساءل عن جودة صناعة القرار. فلا المدير المسؤول يرى ما يجب أن يراه ولا الإدارة العليا تفهم أبعاد ما يحدث. كثيرا ما تتشابه أساليب وممارسات استخدام المحاسبة الإدارية مع المحاسبة المالية، وهذا يثير كثيرا من الأسئلة التي ترتبط بمدى قدرة فريق المالية في المنشأة على استقراء واستنباط الخلاصات الممكنة لقرار أفضل.
وفي حين ينتقل العالم إلى وضع جديد من استخدام البيانات المالية لصنع القرارات يتساءل بعض أعضاء الإدارة العليا عن مصطلحات مالية أساسية ويعجزون عن الفصل بين ما تستدعيه المعايير المحاسبية وما يعكس فهما أفضل للواقع المالي وسلوك الأعمال، فضلا عن الإحاطة بتخطيط مسارات هذه المعلومات داخل وإلى المنظمة. لو قيمنا نسبة استغلال المعلومات المالية في صناعة القرار على جميع مستويات المنشأة مقارنة بما هو متاح للمعالجة والاستخدام لوجدنا أن النسبة ضئيلة جدا. تتعاظم هذه المسألة حين نضيف إلى قائمة البيانات ماهو غير مالي، مثل المعلومات الأخرى التشغيلية والفنية، وهذا جانب واسع وغير منظم بالشكل الممكن والمطلوب. تتزايد هذه التفاصيل حين ننظر إلى التوافق حول توافر وجودة البيانات لصنع القرار بين الإدارات المختلفة، وحين نقيم استخدام التقنية لصناعة القرار، وحين ندمج أصنافا أخرى من المعرفة مثل البيانات السلوكية، أو التنبؤية.
المسألة الأخرى سبق أن أشرت إليها بشكل مستقل، وهي أثر مباشر للتغيرات الأخيرة في سوق المهارات والمواهب. سرعة التنقل الوظيفي أصبحت ظاهرة عالمية، لكن لدينا ما يخصها من تفاصيل، تفاصيل تحدث بشكل يقلل من منحنى المعرفة على المستويين الفردي والتنظيمي. إذا انتقل الموظف -صغيرا كان أم كبيرا- من مكان لآخر قبل إكمال دورة التعلم الطبيعة أو المسرعة، فهو يشكل عنصر ارتكاز هش لمكان عمله. إدارة المعرفة في هذا المكان تصبح أصعب وأكثر اضطرابا بوجود هذا الموظف، والمسألة أصعب بلا شك إذا كان معظم الموظفين من هذه الشاكلة.
لهذه الأسباب يجب أن تقوم المنشآت المحلية بإعادة تعريف مفهوم بناء المعرفة والحفاظ عليها، وجمعها وترتيبها واستخدامها، بشكل يأخذ كل هذه التفاصيل الجديدة في الاعتبار. المسألة مصيرية وتتطلب اهتماما كبيرا خصوصا في بذل الجهد لضبط ما هو متاح من بيانات والاستفادة منه. ينطلق بنا الموضوع إلى أبعاد أخرى إذا عرفنا أن كثيرا من المنشآت لن تعيد بناء المفهوم لإنهاء ما لا تعرفه، فهي بحاجة إلى تأسيسه من البداية. ومن ينجح في ذلك سينتقل مباشرة إلى عالم آخر يكتشف فيه بيانات جديدة يستوردها أو يصنعها ويعالجها، وليس فقط استغلال لما هو متاح، وهذا مفتاح بناء خطة التعلم الأمثل التي يجب أن تحدث بشكل مدروس ومخطط له، فزمن الاعتماد على الحدس والشطارة ولى بلا رجعة.