ثقافة وفنون

"التثقف عن بعد" .. استثناء لا سبيل للمراهنة عليه

"التثقف عن بعد" .. استثناء لا سبيل للمراهنة عليه

ما مدى قدرة الثقافة على الحفاظ على جوهرها في عوالم تؤسس لعادات غير مألوفة؟

يعيد تهافت الجمهور على الأنشطة الثقافية، بعد استئنافها واقعيا، والمثال الأبرز فعاليات معرض الرياض الدولي للكتاب، إلى الواجهة السجال بشأن المسألة الثقافية، وبالتحديد مدى إمكانية وقابلية المنتوج الثقافي لصيغة "عن بعد"؟ خاصة، بعد اختبار هذا الأسلوب، طوعا أو كرها، خلال جائحة كورونا، التي فرضت ممارسات ثقافية جديدة، عمادها الإنترنيت والفصول والقاعات الافتراضية.
لقد تحولت "الثقافة عن بعد" إلى قاعدة مع وباء كورونا، لكنها قطعا ليست ثمرة من ثمار الجائحة. فقد كانت حاضرة في صلب العديد من التجارب الثقافية حول العالم، قبل غزوة الفيروس بوقت طويل، لدرجة استقرارها في الكثير من المؤسسات الأكاديمية والجامعات التي أصبحت تتعامل عن بعد مع الدارسين، من كل بقاع العالم.
صحيح أن الثقافة قديمة قدم الإنسان، الذي اجتهد أيما اجتهاد، من عصر إلى آخر، قصد ابتكار وسائل التعبير عن نفسه والتواصل مع الآخرين. ومثلت ثورة التكنولوجيا التي نعيش على فصولها، ثورة ثقافية في حد ذاتها، فأساس انعقادها العلم والمعرفة والفكر والبحث والتقصي. وهكذا أضحت ابتكارات التحول الرقمي، اختبارا لطبيعة علاقة الإنسان بالثقافة: ألا تزال علاقة اجتماعية أم صارت مجرد علاقة تقنية؟
مع هبوب رياح التقنية على الحقل الثقافي، توالت الأسئلة بشأن أمانة التكنولوجيا في تعاملها مع الرسالة الثقافية. بصيغة أخرى، مدى قدرة الثقافة على الحفاظ على جوهرها في عوالم افتراضية تؤسس لعادات ثقافية غير مألوفة. تباين المواقف حيال الأمر ما بين التأييد المطلق، لطور جديد من أطوار التطور الثقافي في تاريخ الإنسانية وبين الرفض الكلي، لاعتبارات مرتبطة بالثقافة ذاتها.
لا يتردد فصيل من هؤلاء في القول، بنوع من المغالاة، إن "الثقافة عن قرب" مجرد وهم، فكافة أصناف الثقافة الإنسانية تكون عن بعد، من الكتاب إلى الموسيقى إلى النحت، فلا معنى للحضورية ها هنا، فكل ما يحصل عليه هو عن بعد. ثم أليس البعدية أفضل السبل لضمان العدالة في مجال التعليم مثلا؟. إذ إنها تكسر حاجزي الزمان والمكان، وتمضي في آفاق واسعة نحو أكبر شريحة من الناس، لا تستطيع أن توفرها المؤسسات التقليدية المحدودة بمكانها، والمحدودة بعدد أفرادها.
ألم تتحول الثقافة عن بعد إلى أمر مشاع بين الناس؟ فالتطور التقني وضع رهن إشارة المهتمين، في مختلف الحقول المعرفية، وعدة نظرية ومادة تدريبية، بنقرة زر فقط. ولم يبق للمسافة معنى مع مواقع التواصل الاجتماعي التي يسرت سبل متابعة عوالم الثقافة، بفسح المجال للتواصل مع المفكرين والأدباء والكتاب والفنانين والممثلين، حتى بات كل جديدهم، من أحدث إصدار إلى موعد أمسية ثقافية وحتى خبر الإصابة بنزلة برد، بين يدي المتابعين أولا بأول، دون جهد ولا عناء.
يستحيل أن تتحول الثقافة عن بعد إلى أصل، كما يقول الرأي الآخر، لأن الأضرار المترتبة على الثقافة عن بعد أكثر من المنافع، فالمؤسسات التقليدية تقدم خبراتها للمتلقي عن كثب، لضمانها كافة العناصر المعرفية اللازمة. وأي معنى يبقى للرسالة الثقافية، في ظل غياب تفاعل حقيقي بين صاحب الرسالة الثقافية والمتلقي، فالأصل فيه المواجهة بين الطرفين، لأن التأثير عبر الوسيط غير التأثير وسط الجماهير. فهل يمكن أن يمارس الشاعر دوره بلا جمهور؟ وكيف لممثل أن يقدم عرضا مسرحيا معلبا؟ وهلم جرا في باقي الفنون؟
وتزداد الحضورية راهنية في المسألة التعليمية، فالشرط الإنساني أساسي في العملية برمتها، والدرس منتوج مشترك بين الأستاذ والتلاميذ، قوامه الالتزام والتفاعل والأسئلة، الأضلاع الثلاثة لتطوير المعرفة، لا مجرد حشد من المعلومات والتقنيات، تبث عبر الوسيط التكنولوجي. وتذهب أصوات إلى التحذير من خطر تدمير منظومة من العمليات المادية والنفسية والثقافية والاجتماعية بالإمعان في خيار "التعليم عن بعد".
عودة الحياة الثقافية إلى طبيعتها اليوم، تكشف أن الحماس الذي أبداه الجمهور زمن كورونا، لكل مبادرات الفضاء الافتراضي، بما فيها الثقافية، كان حماسا نفسيا بالدرجة الأولى. فواقع الحال حينها، كان يقتضي البحث عن فضاءات للتنفيس ورفع الحصار، وتلبية الاحتياجات التي زادت، بسبب فائض الوقت الذي أتاحه العزل.
هل يستوي مثلا التجول بين أروقة معرض الكتاب، والانتقال بحيوية ونشاط من دار نشر إلى أخرى، بحثا عن رواية جديدة أو نسخة من كتاب قديم لا وجود له في المكتبات، وبين معرض افتراضي تزوره من داخل غرفتك، في دقائق معدودة تستعرض فيها لائحة من العناوين، تكفيك نقرة واحدة ليصبح متاحا ضمن مستنداتك في الحاسوب؟ وهل إحساس زيارة متحف افتراضي هو ذاته ما يراودك وأنت تطوف في قاعات ودهاليز متحف واقعي لاكتشاف مكنوناته وذخائره؟
ناهيك عن وجود عدد من المنتجات الثقافية التي لا تطاوع، بحكم طبيعتها، الفضاء الافتراضي. فلا يمكن تقديم عرض مسرحي افتراضي، رغم وجود محاولات زمن كورونا، فالمسرح له طقوس خاصة، تستدعي عرضا حيا وممثلين فعليين على خشبة حقيقية بحضور الجمهور. وقبل التقديم يتطلب الإنتاج اجتماعات وقاعة وتدريب.
لا أحد ينكر دور التكنولوجيا في إنقاذ البشرية، في الكثير من المجالات. بيد أن المراهنة عليه بشكل استراتيجي، بجعل استثناء كورونا أصلا وقاعدة، واعتبار الرقمي زمنا قائم الذات، من شأنها أن تقود إلى نتائج عكسية، وتسهم في تراجع وانحسار الثقافة.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون