ثقافة وفنون

الليبرالية .. قصة انهيار أيديولوجية من الداخل

الليبرالية .. قصة انهيار أيديولوجية من الداخل

الليبرالية .. قصة انهيار أيديولوجية من الداخل

الليبرالية .. قصة انهيار أيديولوجية من الداخل

الكاتب باتريك دينين

"بدأت رحلة سقوط الليبرالية من داخلها". حين يكون هذا الاعتراف أول عبارات كتاب بعنوان "لماذا فشلت الليبرالية؟"، ويكون المؤلف هو باتريك دينين، الكاثوليكي المحافظ والأكاديمي المختص في الفلسفة السياسية في جامعة نوتردام، يدرك القارئ أن بين يديه نقدا علميا رصينا لموضوع البحث. فبعد مضي ثلاثة أعوام على إصداره، وتم نقله حديثا إلى اللغة العربية، ضمن إصدارات سلسلة عالم المعرفة "2020"، لا يزال محل جدل كبير في الأوساط الأكاديمية والإعلامية في الولايات المتحدة الأمريكية، ويحظى بالقبول والإشادة من اليسار واليمين، على حد سواء.
يبدو هذا الإجماع على التلقي الحسن للكتاب غريبا للوهلة الأولى، ولا سيما عند استعراض تفاصيله، بدءا من المقدمة "نهاية الليبرالية"، وانتهاء بالخاتمة "الحرية بعد الليبرالية"، مرورا بعناوين فصوله السبعة "الليبرالية غير المستدامة، الليبرالية مناهضة للثقافة، امتهان المواطنة...". لكن قوة وحدة النقد تزيل تلك الغرابة، فدينين يجادل، على مدار الكتاب، بأن "الليبرالية لا يعوزها الإصلاح بل الإحالة إلى التقاعد". ولا تكمن المشكلة في أن الليبرالية قد اختطفت فقط، بل أيضا في أن إعلاءها شأن الاستقلال الذاتي للفرد كان خاطئا منذ البداية، وأن مرور العقود جعل خطأها أكثر وضوحا فقط.
تعاني الليبرالية أزمة عميقة، ليس نتيجة قصور في تحقيق الأهداف التي قامت عليها، إنما نتيجة لالتزامها بتحقيق هذه الأهداف، ونجاحها بشكل كبير في ذلك. فقد وصلت المجتمعات العربية إلى حالة غير مسبوقة من الفردية، وارتبط ذلك بالتحرر الشخصي من السلطة والمؤسسات والتقاليد الثقافية والدينية. وزادت الدعوات المتكررة إلى علاج أمراض الليبرالية بمزيد من الليبرالية في تأزيم الوضع، وإلقاء مزيد من الزيت على نار ملتهبة. لأن مآل ذلك في النهاية، هو تعميق الأزمة على مختلف الأصعدة، السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية.
يركز الكاتب عند تشريح أعطاب الأيديولوجيا الليبرالية على التجربة الأمريكية بالدرجة الأولى، مشيرا إلى اختلافها الجذري عن الليبرالية في الدول الاسكندنافية، على الرغم من كونها دولا رأسمالية، فإنها تحرص على وجود قطاعات اقتصادية تابعة للدولة، ما يعني أنها ليست ليبرالية خالصة بطريقة أو بأخرى. هذا في وقت يعتقد فيه "نحو 70 في المائة من الشعب الأمريكي أن بلادهم تسير في الاتجاه الخاطئ، كما يعتقد 50 في المائة من سكان البلاد أن أفضل أيام بلادهم قد ولى إلى غير رجعة".
ما أكثر الأمراض التي عددها دينين بشأن هذه الأيديولوجيا، من قبيل: حدوث تزايد الانحراف في توزيع الثروة، وفساد في المؤسسات التقليدية "جمعيات، نقابات، الأسرة..." وفقدان الثقة بالسلطة "السياسية والدينية والعلمية والإعلامية..." وبين المواطنين أنفسهم، وهكذا تباعا حتى بات جوهر الليبرالية هو الوحدة. مقابل ذلك، يمعن في استعمال وصف "الليبرالية معدومة الضمير" عند الحديث عن الليبرالية الجديدة، خاصة بعد انحيازها إلى قوى السوق، ومن يسيطر عليها من كبار الرأسماليين والاحتكاريين، ومسايرتها لرغبتهم الشديدة في تحقيق الأرباح، دون اهتمام بأحوال ومصالح الجموع الغفيرة من الفقراء الذين يشكلون أغلبية المجتمعات البشرية في زمننا الحالي.
هذا ليس بالأمر الغريب، فالليبرالية، بحسب دينين، بوصفها أيديولوجيا تبقى أول مشروع لتحويل جوانب الحياة البشرية لتتوافق مع خطة سياسية مسبقة. نحن نعيش في مجتمع، وعلى نحو متزايد في عالم، أعيد تشكيله على صورة أيديولوجيا - أول أمة تأسست بالاحتضان الصريح للفلسفة الليبرالية، حيث يتشكل مواطنوها بنحو تام على وجه التقريب بالتزاماتها ورؤيتها. نقيض بقية الأيديولوجيات المنافسة، الأكثر قسوة، تبقى الليبرالية أكثر مكرا ودهاء، فهي "كأيديولوجيا تتظاهر بالحياد، ولا تدعي أي تفضيل، وتنكر أي نية لتشكيل النفوس تحت لواء حكمها. هي تتزلف من خلال الدعوة إلى الحريات السهلة، والإلهاء والإغواء بالحرية والملذات والثروة. هي تجعل نفسها خفية، تماما كما لا يرى نظام تشغيل جهاز الحاسوب في الأغلب، إلى أن ينهار".
يتعمد الكاتب، بين الفينة والأخرى في غمرة الاستغراق في القراءة، كشف حقائق قدمت لنا منقوصة عن المشروع الليبرالي. ففي بداياتها "بشرت الليبرالية باقتلاع طبقة أرستقراطية قديمة باسم الحرية، لكن بينما تزيل كل آثار نظام قديم، فإن ورثة أسلافهم المناهضين للأرستقراطية المستبشرين، يعدون استبدالها نوعا جديدا من الأرستقراطية، التي ربما تكون فتكا". وعن الغبن الذي يطول المرأة في المجتمع، حين يطلب منها التخلي عن دورها الطبيعي، يقول "نعد اليوم العلامة الأساسية لتحرير المرأة هي تحررها المتزايد من بيولوجيتها"، لأن الإنجاب يقيد من حريتها الفردية، وفقا لدعاوى الليبراليين، فانخفضت بذلك معدلات المواليد في الغرب، وغدت المرأة في نهاية الأمر أداة إضافية لتعزيز رأسمالية السوق".
بعيدا عن السياسة والاقتصاد فعلت الليبرالية فعلتها في الإنسان والثقافة، فقد عملت على إعادة تعريف الإدراك الإنساني للزمن، في محاولة لتحويل تجربة الزمن، وبصفة خاصة العلاقة بين الماضي والحاضر والمستقبل، لتجمع الكل فيما تسميه بـ"الحاضرية الفلسفية". فلا شيء سوى اللحظة، لذا تصارع الليبرالية إلى اجتثاث القواعد والثقافات المحلية القائمة، فهي بمنزلة قيود قمعية على الحرية الفردية. لا تحتفظ الليبرالية بشيء من الطقوس الثقافية المشتركة سوى بما يمجد الدولة الليبرالية والسوق، فأضحت الأعياد الوطنية مناسبات للتسوق، وصارت أيام التسوق المقدسة "الجمعة السوداء" أعيادا وطنية.
تحرص الليبرالية، في نسختيها القديمة والحديثة، على إزاحة الثقافات الفعلية، بمحاكاة ليبرالية زائفة، يعتنقها بشوق جمهور غير مدرك لما يقع. وهكذا يكون استحضار "الثقافة" دائما بصيغة المفرد وليس الجمع، فيما الأصل أن الثقافات الفعلية متعددة ومحلية وخاصة. الثقافة في الأصل حصيلة تراكم التجربة والذاكرة المحليتين والتاريخيتين، وفي الليبرالية تصبح الفراغ الذي يبقى، عندما تنزع أحشاء التجربة المحلية، وتفقد الذاكرة.
اعتمد باتريك دينين في كتابه على تشريح المراحل التاريخية التي مرت بها الأيديولوجيا الليبرالية، بداية من اقتلاع الأرستقراطية القديمة باسم الحرية، ووعود المشاركة في الحكم، حتى وصلت إلى ذروة نجاحها بسقوط الأيديولوجيات السياسية المنافسة، وهي الفاشية والشيوعية. وكيف ومتى بدأت رحلة السقوط المدوية، والأساليب والوعود الخادعة التي قدمتها الليبرالية للمواطنين، ليخلص إلى قاعدة مفادها "أن نظاما أفضل لن يضمن تلقائيا حياة أفضل. الحقيقة أن العكس هو الصحيح، فقط من خلال إيجاد حياة أفضل يمكن تطوير نظام أفضل".

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون