ثقافة وفنون

«فتح الأندلس» .. دراسة تستنطق التاريخ وترد على المشككين

«فتح الأندلس» .. دراسة تستنطق التاريخ وترد على المشككين

يسهم كتاب "فتح الأندلس" في كشف حقائق غامضة.

«فتح الأندلس» .. دراسة تستنطق التاريخ وترد على المشككين

الدكتور السنيدي محاضرا في مناسبة سابقة.

«فتح الأندلس» .. دراسة تستنطق التاريخ وترد على المشككين

من دوافع فتح الأندلس موقع إسبانيا المميز والمعبر الطبيعي لأوروبا الغربية.

ليس سهلا أن تعود إلى المرويات والقصص والحكايا التي صدرت قبل نحو 1300 عام، لتمحص في تفاصيلها وما دار في رحاها، فذلك جهد بحثي مضن، اختار الأستاذ الدكتور صالح بن محمد السنيدي خوض غماره، ليخرج لنا بدراسة جديدة تضمنها كتاب حمل عنوان "فتح الأندلس .. دراسة في الخطة والاستراتيجية العسكرية مع النقد والتمحيص لمروياته والرد على نظرية إجناثيو أولاجوي العرب لم يغزوا الأندلس".
بين دفتي الكتاب، استنتج السنيدي أن القصة لم تكتب كما يجب، فأعاد كتابتها مشاركا القراء في الحكم والوصول إلى نتائج مقنعة، ويعيدنا أيضا إلى مقولة حسين مؤنس المؤرخ المصري الراحل "ما زلنا إلى يومنا هذا نبدئ ونعيد في تفاصيل فتح الأندلس، وكلما حسبنا أننا انتهينا إلى قول فصل، جاءنا ما يذكرنا بالحقيقة العلمية التي تقول "إن العلم لا يعرف أبدا ذلك الشيء الذي نسميه "الكلمة الأخيرة" في أي موضوع".

أقرب إلى أدب الملاحم

يفاجأ من يتتبع ويغوص في بداية الأحداث وسيرها ثم نتائجها بانقطاع وعدم ترابط ولا تناسق فيما بين مروياتها، بل سيكتشف أنه أمام تخمين في سرد بعض وقائعها، وقد وصل السنيدي المتخصص في الدراسات الأندلسية إلى هذه النتيجة بعد أن استعرض الروايات المتعددة، والكتابات التي تناولت هذا الموضوع أو أحد جوانبه، حيث خرج كتابه بنتيجة أن مرويات فتح الأندلس لم تمحص وتنقح أحداثها بما يناسب هذا الحدث الكبير، فتأخر تسجيل وقائعها، وتدخل عوامل مختلفة مثل الشعوبية والعنصرية ثم الإقليمية وتأثيرها في صياغة الرواية، أحالها في جلها إلى روايات أقرب ما تكون إلى أدب الملاحم وأساطير القصاص.
يسهم كتاب "فتح الأندلس" في كشف حقائق غامضة، وقضايا متداخلة لم يوصل في شأنها إلى مسلمات، فموضوع فتح الأندلس أغرق في بحر زاخر من الآراء المتصارعة والمواقف المتلاطمة والتصويبات المتباينة والتحاليل المتشعبة، ما زاده غموضا، ويسير بنا إلى رواية سليمة ومنطقية للأحداث، فالإخباريون في رواياتهم ركزوا على أسطورة يوليان وابنته، حاكم سبتة، الذي ألقى بثقله إلى جانب المسلمين، وتقول بعض الروايات "إنه اعتنق الإسلام"، ويسميه البعض جوليان أو ليان أو يليان أو جليان، بحسب قراءة الاسم ونطقه، واختلف البعض في أصله، فهو بربري من برابرة غمارة عند البعض، وقوطي عند آخرين، وبيزنطي عند فريق ثالث.
وبغض النظر عن دوافع يوليان المعلنة والخفية، إلا أنه كان من العوامل الفاعلة والمؤثرة في ترجيح كفة القوى، وتشير المصادر إلى أن دوافعه لا تخرج عن إطار عدائه الشخصي للملك القوطي لذريق، سواء لمنازعات وخصومات سياسية أم لأسباب شخصية، وتشير هذه المصادر إلى قصة شرف ابنته المهدور، ومنها استمد القصاص العرب والإسبان واستلهموها في أعمالهم وخلدوها في رواياتهم، فالقصة تحكي أن لدى يوليان ابنة جميلة، أراد لها الرفعة والسمو، فبعث بها إلى بلاط الحاكم الإسباني في طليطلة لتتأدب بآداب الملوك وتتخلق بأخلاقهم، لكن لذريق كان مغرما بالنساء، فبهره جمالها الأخاذ ونزا عليها، فعادت أدراجها إلى سبتة وقصت على والدها ما حدث، فاستشاط غضبا، وفكر في ضربه بالمسلمين، وحبب إليهم غزو إسبانيا.

عوامل مشجعة

في حديث الباحث عن دوافع فتح الأندلس، فهي كثيرة، توثقها الدراسة الجديدة الصادرة عن مركز البحوث والتواصل المعرفي، المؤسسة البحثية السعودية المستقلة، المتخصصة في دراسة السياسات والعلاقات الدولية، وتحليل الأزمات، والاستشراف، والبحث في الثقافات والدراسات البينية، إضافة إلى التخصص في مجال التواصل المعرفي.
من هذه العوامل موقع إسبانيا المميز، والمعبر الطبيعي لأوروبا الغربية، وهذا الموقع جعلها نقطة جذب للغزاة والمغامرين وأصحاب الإمبراطوريات الكبرى على امتداد التاريخ، كما أن هذه الأرض الخصبة والمياه الجارية والمناخ المناسب، إلى جانب أن استكمال فتح المغرب بأقاليمه ومناطقه كافة دفع بالقادة إلى البحث عن ميدان جديد، مع توافر عنصر الحماس والرغبة لدى أفراد الجيش، وكذلك الدعم المادي والمعنوي من قبل القيادة العليا في دمشق وممثليها في القيروان، ووجود عدد من العوامل المشجعة، مثل اضطراب الأوضاع السياسية، وحركات التمرد والعصيان في أنحاء متفرقة من البلاد، وسيطرة النبلاء والإقطاعيين والمتنفذين على موارد الدولة.
إضافة إلى ذلك كله، كانت الأندلس تشهد صراعا دينيا، وأسهم في نجاح المهمة أيضا مساعدة يوليان، الذي أبدى استعداده للتعاون مع المسلمين، وطلب منه القائد الكبير موسى بن نصير تنفيذ حملة عسكرية ليثبت حسن نواياه من جهة، وليبرهن عمليا على صدق موقفه، فأعد حملة صغيرة قوامها مركبان، أغارت على جنوب الأراضي الإسبانية، وحققت أهدافها بنجاح، فكانت مثل بالون اختبار.

12 ألف مقاتل

يوثق الدكتور صالح السنيدي، أستاذ التاريخ الأندلسي في جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية سابقا، ورئيس المركز الإسلامي في غرناطة سابقا، كيفية الاستعداد للحملة من قبل موسى بن نصير، وأوكلت القيادة إلى طارق بن زياد، وتتفق معظم المصادر على أن عدد المشاركين في الحملة الأولى التي قادها ابن زياد بلغ نحو سبعة آلاف، وبعد انضمام طريف إليه فيما بعد، رفع العدد وعزز إلى 12 ألفا، قبله انطلقت حملة مساندة بقيادة ابن نصير قوامها 18 ألف مقاتل لتكمل المسيرة، وتثبيت أواصر النصر.
الكتاب الذي يقع في نحو 188 صفحة يضعنا في صورة الأحداث، وكأننا هناك في الأندلس لحظة وقوعها، دون تضخيم لدور يوليان من قبل بعض المستشرقين، الذي يخفي بدوره الحقيقة، ويقلل من دور الفاتحين وجهودهم المبذولة.
اختار موسى بن نصير وقتا مدروسا، لم يكن عشوائيا، بعد قراءة الخطة والخصوم، وواقع البحار وحركة النجوم والأنواء، ومن توجيهاته لطارق بن زياد لموعد عبور القوات الإسلامية المشاركة في عملية الفتح لذلك المضيق الفاصل بين إسبانيا والمغرب، وبعث إليه برسالة "اطلب فيمن عندك رجلا يعرف الشهور السريانية، فإذا كان يوم 21 من أيار وهو بالحساب الأعجمي ماية، فاجسر على بركة الله وعونه".
أما أعداد الجيش الخصم، فاختلفت الروايات حولها، منهم من أوصلها إلى مائة ألف محارب، ولعل الروايات التاريخية الأكثر قبولا هي أنها نحو 40 ألفا، لكنه جيش أنهكته الحروب، وأتعبته الأسفار وطول الطريق، ينقصه الحماس والروح المعنوية، فيما فرض طارق بن زياد على خصمه مكان اللقاء، واختار موقع المواجهة ليكون ذا حماية طبيعية، وهذا يخفف من وطأة تفوق خصمه في العدد والعدة، وفي معركة قياسية استمرت ثمانية أيام، استشهد فيها ثلاثة آلاف من خيرة محاربي المسلمين، لكنها معركة حددت مصير إسبانيا، وكانت فاتحة للزحف الكبير والانتشار ثم الانتصار وفتح الأندلس.

هل غزا العرب الأندلس؟

يرد كتاب "فتح الأندلس" على نظرية إجناثيو أولاجوي المستشرق الإسباني "1903 – 1974" التي يدعي فيها أن "العرب لم يغزوا الأندلس"، وتوصل الباحث إلى أن فتح الأندلس كان خلاصة للأساليب التي استخدمها المسلمون في حروبهم وعملياتهم العسكرية في الميادين المتعددة، حيث يذهب أولاجوي إلى أن فتح الأندلس كان سلميا دون دخول قوات أو جيش إسلامي، وأن ذلك حدث بفعل التأثيرات والمؤثرات التي تفاعلت بحكم الحوار والصلات المتبادلة.
كان أولاجوي يقلل من شأن الدور العربي الإسلامي في إسبانيا، ويستغل مشاعر القراء السذج الذين ليس لهم إلمام بالموضوع، بحسب ما يصفه مؤرخون، فتارة تناول المصادر بشيء من التشكيك، ثم يشكك في فكرة الفتح العسكري واستحالته، مثل صعوبة عبور المضيق البحري، متسائلا باستغراب: كيف تمكن هؤلاء الصحراويون الرحل من اجتياز مضيق جبل طارق الذي كان يعد مقبرة للبواخر، لوقوعه بين تيارات بحرية متوسطية وأطلسية قوية تتماوج فيه، فضلا عن عدم توافر سفن صالحة لعبوره؟
ويروج المستشرق الإسباني لفكرة مفادها أن الفتح كان حضاريا وليس عسكريا، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك، حيث يشير إلى أن موسى بن نصير شخصية خرافية خيالية اختلقتها الرواية المصرية والبربرية، أو مبشر ديني، فيما يرد عليه الدكتور السنيدي بإسهاب وإجابات شافية، في دراسة لا تخلو من جانبها السردي الممتع.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون