خروج أمريكا المرتبك من أفغانستان .. أين اختلت الأمور؟
في الثامن من تموز (يوليو)، دخل جو بايدن إلى الغرفة الشرقية في البيت الأبيض من أجل تقديم أحدث المستجدات المطمئنة حول انسحاب القوات الأمريكية من أفغانستان.
حينها، كان الجيش الأمريكي قد غادر قاعدة باغرام الجوية، التي كانت مركز العمليات خلال الصراع المستمر منذ عقدين من الزمن، وقبل بضعة أيام من ذلك كان الانسحاب "يسير بطريقة آمنة ومنظمة". والأهم من ذلك، أنه لم تتم "خسارة" أي من أفراد قواته.
قال بايدن إن الجيش الأفغاني كان "أفضل تدريبا، وأفضل تجهيزا وأكثر كفاءة فيما يتعلق بشن الحرب" أكثر من طالبان، الذين كانوا "من المستبعد للغاية" أن ينتهي بهم المطاف "باجتياح كل شيء وامتلاك البلاد بأكملها".
ثم عاد بايدن يوم الخميس الماضي إلى الغرفة الشرقية مع كل هذه الافتراضات ممزقة إلى أجزاء صغيرة، فيما كان البيت الأبيض يواجه أكبر أزمة له منذ تنصيب الرئيس في كانون الثاني (يناير).
قُتل 13 من أفراد الجيش الأمريكي في هجوم إرهابي خارج مطار كابول، أثناء محاولتهم السيطرة على فوضى عارمة أثناء عمليات إجلاء آلاف المدنيين من مدينة استولت عليها حركة طالبان.
قال بايدن إنه كان يوما "صعبا"، متبنيا لهجة أكثر كآبة مقارنة بما كان عليه قبل سبعة أسابيع فقط. المهمة التي تحدث عنها بارتياح في ذلك الوقت قد أصبحت الآن "خطيرة للغاية". قال البيت الأبيض يوم الجمعة إنه يستعد لهجوم إرهابي آخر.
حتى لو أكملت الولايات المتحدة كما هو مخطط اليوم - بعد أن ترأست عمليات إجلاء لأكثر من 100 ألف مدني باستخدام جسر جوي هائل في مطار كابول استمر حتى الآن لمدة أسبوعين - فإن الفوضى وسفك الدماء اللذين حصلا في الأيام القليلة الماضية إنما يخاطران بترك وصمة عار لن تمحى من رئاسة بايدن.
لقد كان الخطأ الأساسي الذي ارتكبه الرئيس الأمريكي وفريقه للأمن القومي، بمن في ذلك المسؤولون العسكريون والاستخباراتيون، هو التقليل من قدرة طالبان على السيطرة على البلاد بهذه السرعة التي تمت بها. أدى هذا التقدم الخاطف للجماعة إلى قلب كل الخطط التي وضعتها الإدارة لخروج ممنهج.
قال ريتشارد فونتاين من مركز الأمن الأمريكي الجديد، وهو مؤسسة فكرية في واشنطن: "الخطأ الجوهري في التقديرات تمثل في افتراض أن الولايات المتحدة سيكون لديها ترف الوقت".
أشار فونتاين إلى أن الإدارة افترضت أن القوات الأفغانية التي دربتها وسلحتها الولايات المتحدة "ستتصدى لحركة طالبان لبعض الوقت"، ما يمنحهم فسحة كافية لإصدار التأشيرات للأفغان قبل فرارهم من البلاد. كما أنها خططت "لإرسال القوات بالقطارة" بدلا من أن تضطر إلى نشر تعزيزات لتنظيم الجسر الجوي المضطرب.
أضاف: "كل هذه (الفرضيات) كانت خاطئة وقد ثبت خطأها في وقت قصير جدا. لقد تعثروا في الاستجابة للأحداث المتغيرة بسرعة كبيرة".
لم تكن حدة الأوضاع في أفغانستان واضحة للبيت الأبيض إلا قبيل منتصف آب (أغسطس) بقليل، عندما بدأت قوات طالبان بالسيطرة على سلسلة من عواصم المقاطعات. في تلك المرحلة بات الاستيلاء على كابول تهديدا حقيقيا.
حينها كان بايدن لا يزال يخطط لقضاء إجازة لمدة أسبوعين، يقسم وقته خلالها بين منتجع كامب ديفيد في ماريلاند ومنزليه في ديلاوير في ويلمنجتون وشاطئ ريهوبوث. لكن عندما تبين للبيت الأبيض أنه يواجه عملية انسحاب أكثر اضطرابا مما كان متوقعا، غير الرئيس برنامجه.
في 16 آب (أغسطس)، بينما كان العالم مشدوها بصور الأفغان وهم يتشبثون بالجزء الخارجي من طائرة عسكرية تقلع من مطار كابول، عاد بايدن من كامب ديفيد إلى البيت الأبيض لمخاطبة الأمة. اعترف بأن الأمور "حدثت بسرعة أكبر مما توقعناه" وألقى باللائمة لما آل إليه الوضع على عدم توافر الإرادة الكافية لدى القادة السياسيين الأفغان وجيشهم للقتال من أجل بلدهم.
بعد عودته إلى البيت الأبيض ظل بايدن قابعا هناك منذ ذلك الحين. وبدأ التدافع الهائج لإجلاء ما أمكن من المواطنين الأمريكيين والأفغان الذين ساعدوا قوات التحالف. تعهد بايدن بأن "مهمتنا العسكرية الحالية ستكون قصيرة المدى، ومحدودة النطاق ومركزة على أهدافها وهي: نقل مواطنينا وحلفائنا إلى بر الأمان بالسرعة الممكنة".
مع تحول الانسحاب إلى أزمة، أشار المنتقدون إلى الأخطاء التي وقعت خلال تنفيذ الانسحاب. انتقد بعضهم، بمن فيهم ليندسي غراهام، السناتور الجمهوري من ولاية كارولينا الجنوبية، قرار مغادرة قاعدة باغرام، الذي أجبر الجيش على الاعتماد على مطار كابول وحده في عمليات الإجلاء.
يقول المدافعون عن نهج الرئيس إن باغرام بعيدة عن كابول، وتقع في منطقة ذات تضاريس شاقة أكثر، وسيكون من الصعب وصول الفارين من البلاد إليها، لأن معظمهم يعيش في العاصمة.
أصر بايدن يوم الخميس على أنه اتبع نصيحة جنرالاته. قال: "لقد خلص الجيش إلى أن باغرام لم تكن ذات قيمة مضافة، وأن الحكمة تكمن أكثر في التركيز على كابول، ولهذا اتبعت هذه التوصية".
ضغط حلفاء الولايات المتحدة، خاصة في أوروبا، الذين شعروا بالذعر إزاء تكشف الأحداث، على إدارة بايدن للتخلي عن الموعد النهائي المحدد في 31 آب (أغسطس) وتمديد وجودها للحصول على مزيد من الوقت لصالح عمليات الإجلاء.
لكن بايدن رفض أي تمديد، خوفا من أن يجلب كل يوم آخر مخاطر جديدة على القوات الأمريكية، بحسب أشخاص مطلعين على ما كان يفكر فيه.
قال دانيال بيمان، زميل كبير في مؤسسة بروكينغز في واشنطن: "ما أفهمه هو أن انخراط الولايات المتحدة مع حلفائها الأوروبيين كان ضئيلا للغاية في واقع الأمر. اتخذت الولايات المتحدة مجموعة من القرارات بدلا من التشاور مع الحلفاء، على الرغم من أنهم كانوا يضحون بأرواح أبناء شعبهم لسنوات". أضاف: "ليس من المستغرب أن يكونوا غير راضين حقا عن ذلك".
حتى في الوقت الذي التصقت فيه مشاهد درامية لأفغان يائسين يحاولون الفرار من البلاد على شاشات التلفاز في جميع أنحاء العالم، شعر المسؤولون في البيت الأبيض، والبنتاجون ووزارة الخارجية أن جهودهم لتوسيع نطاق عمليات الإجلاء تسير على نحو جيد بشكل متزايد.
كان يتم نقل أعداد متزايدة من الأشخاص جوا من مطار كابول كل يوم، ليصل إجمالي عددهم إلى أكثر من 109200 شخص بحلول يوم الجمعة، بما في ذلك ما لا يقل عن خمسة آلاف مواطن أمريكي. فيما نفذت طائرات الهليكوبتر والقوات الخاصة الأمريكية عدة توغلات خارج المطار من أجل إنقاذ المدنيين.
جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي لبايدن، قال للصحافيين يوم الاثنين: "تساهم ست دول من أربع قارات في هذا المسعى الذي يعتبر أحد أكبر الجسور الجوية في التاريخ".
أضاف سوليفان الذي بدا شاحبا ومتعبا، أن الجسر الجوي كان "مهمة عسكرية، ودبلوماسية، وأمنية، وإنسانية ضخمة" كان "شهادة على قوة ومقصد الولايات المتحدة وحلفائنا".
لكن بمرور أيام الأسبوع، بدأ الشعور بالأزمة يتفاقم داخل البيت الأبيض. اجتمع بايدن يوميا مع كبار مستشاريه للأمن القومي في غرفة العمليات كل صباح. وألغيت المؤتمرات الصحافية أو أعيدت جدولتها حيث كان من الشاق على المسؤولين تقديم وصف دقيق للوضع الذي كان يتطور بسرعة.
كان استيلاء طالبان على أفغانستان يعني أنه يتحتم على بايدن الآن الاعتماد على هذه الجماعة لضمان مرور آمن للأفغان والرعايا الأجانب الذين كانوا يتدفقون للمغادرة، ولمنع هجمات إرهابيي جماعة داعش خراسان.
أرسل بايدن بيل بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، في زيارة سرية إلى كابول للقاء طالبان واعترف المسؤولون الأمريكيون بأنهم كانوا على اتصال دائم مع الحكام الجدد للبلاد.
قال أنتوني بلينكين، وزير الخارجية، يوم الأربعاء: "إن طالبان، سواء أحببنا ذلك أم لا، هي المسيطرة. كان من المهم أن نعمل معهم لمحاولة تسهيل وضمان مغادرة كل من يريدون الرحيل".
لكن بحلول يوم الخميس، تلاشت الآمال في أن تتمكن طالبان من تحقيق بعض النظام في عملية الإجلاء الفوضوية. فعلى الرغم من التحذيرات المتعددة من مسؤولين في الولايات المتحدة، والمملكة المتحدة، وحلف شمال الأطلسي من خطر تهديد وشيك على بوابات مطار كابول، تمكن انتحاري تابع لجماعة داعش خراسان من التملص من نقاط التفتيش التابعة لطالبان.
وتسبب الانفجار في وقوع مذبحة بين الحشود التي كانت تبحث عن مخرج من البلاد، وتبددت آمال بايدن في ألا يموت جندي واحد تحت إشرافه في أفغانستان.
عندما تنتهي المهمة، سوف ينتقد السياسيون في الكونجرس الأخطاء الكثيرة التي ارتكبتها الإدارة. لكن بعد أن يستقر الحال، سيبقى الخطأ الأكبر هو التقليل من شأن العدو، بحسب فونتاين.
قال: "من الواضح أن الخطة الأصلية كان يجب أن ترمى من النافذة بعد غزو طالبان".