Author

احضن ناسك

|
مع الوقت، يزداد قبولنا نحن جيل الهاتف الثابت وأجهزة النداء الآلي وكبائن الهاتف في الشارع، لانكباب من حولنا على أجهزتهم الذكية، بعضنا تفهما، وبعضنا استسلاما، وبعضنا استراتيجية استيعاب على طريقة "شعرة معاوية".
خطر لي أن تأمل المنكبين على هواتفهم يشعرني ببعض الاعتداد، فعيشي مراهقتي ومطلع شبابي دون هاتف نقال، كان لا بد أن يحدث فرقا، لكن جيلي صنع الفرق بما لديه من إمكانات، صنعه في قصصه اليومية، قصصه الخالدة، دراسته، عمله، ووصوله إلى الناس، إلى المعلومة، وإلى أهدافه المختلفة.
ربما في لحظات معينة تتمنى كما تمنى إبراهيم جاد الله، بطل رواية "دفاتر الوراق" لجلال برجس، أنهم اخترعوا الهاتف النقال في توقيت معين ليتمكن من تحقيق أمنيات البوح لبطلة رواية عشقها وتمثل شخصية بطلها بما يجول في قلبه. ولكن مهلا، أليست قصاصة ورق أكثر "تاريخية" من رسالة عبر تطبيق تواصل؟ ربما.
لا أود الوعظ هنا، أولا لأنه لن يفيد، وثانيا لأننا بتنا نفهم أن تقنيات الاتصال تنمي الفردية والذاتية، وانكباب الأوجه والأعين هذا أكبر دليل واقعي دون دراسات وتوقعات، وهذه التقنيات أو الهواتف تمنح المستخدم لها قدرات على التحكم والتنقل من موضوع إلى آخر، كما أن بعض المتخصصين في علم النفس يعتقدون أن اسم الفرد ورمزه الخاص عندما يظهر على الشاشة ويتداوله الآخرون يحقق اعتدادا بالذات وإرضاء للفردية والنرجسية والأنا وفيه تضخيم لها. وأنا شخصيا لا أعتقد ذلك، فما زالت "فردانيتي" أو "ذاتيتي" مستقلة، تستقي هذا الاستقلال من تاريخ كانت أبرز ملامحه الاعتماد على القدرات لا على الوسائل.
في هذه الأيام، يشعر الفرد ظاهريا بأنه مستقل وحر ويتصرف كما يريد، مضخما وهم الفردية والنرجسية، ولكن الواقع أنه شبه مستباح ومعرض للتدخل، والتطفل، وفقدان الخصوصية، وبالتالي "الفردانية" التي يعتقدها أو يرومها.
إن المبدأ الأساس الذي يقوم عليه التواصل اليوم، هو نسف الخصوصية، حتى من يعتقد أنه اختبأ وراء اسم مستعار أو جهاز ليس باسمه، فهو ضمن قاعدة بيانات ما، لشركة ما.
الوعظ هنا إضاعة للوقت، لكن المؤلم فعلا على سبيل الاستشهاد الواقعي هو، رؤية أسرة بكاملها في مكان عام يجلسون سويا، لكن كل واحد منهم في مكان "خاص" على شاشته، ولتحقيق توازن يساعد على تقليل مخاطر هذا "الانكباب"، يجب على الأقل منع الهاتف الذكي في أي اجتماع أو تنزه أسري محدود الساعات.
الاتصال والتواصل مهمان، لكن عدم رفع الرأس وأنت بين الأحبة، كوالديك أو ناسك، هو في الحقيقة "طأطأة" تظهر مذلتها لاحقا، ارفع رأسك، واحضن ناسك.
جرب الواقعية قليلا على سبيل التغيير، خذ إجازة من "الافتراضي".
إنشرها