Author

الثقافة المالية .. تغير سلبي أم إيجابي؟

|
أرى تغيرات الثقافة المالية في الأعوام القليلة الماضية، أقرب إلى الإيجابية، وإن كانت - على المستوى الفردي أحيانا - تشوبها المرارة. قبل عقد من الزمان، كانت نداءات تطوير الثقافة المالية، وتحسين السلوكيات الفردية المرتبطة بالقرارات المالية، أشبه ما تكون بالصراخ في الفراغ "لم يكن أحد يهتم". كان الادخار عند كثير من الناس مجرد مفهوم خيالي أو فكرة غير قابلة للتطبيق، ربما ليست ملحة. كان "تحسين مصادر الدخل" لكثيرين، خيارا غير ضروري، أو مسارا يسلكونه عندما تتوافر الرغبة الخاصة المنطلقة من حافز ذاتي مثالي، أو ربما للتسلية! لم يكن متطلبا للبقاء وفق أسلوب الحياة المستهدف. قبل أعوام ليست بعيدة، لم يكن تحسين المسار المهني مدخلا لتقوية الاستقرار المالي، فالبداية وظيفة والباقي تحصيل حاصل.
تغير المشهد اليوم بالكلية - ومع أننا ما زلنا في بداية الطريق، إلا أن الواقع يعج بالمؤثرات والشواهد التي تثبت بأن واقعنا المالي يتغير بشكل كبير، ويتحسن على أثره تعاطينا مع المال كأداة تتطلب مهارات خاصة للتعامل معها، وكمورد ضروري لتحسين أسلوب المعيشة والحياة. حالة عدم الرضا، التي يبديها البعض، هي مجرد دليل على تحرك الوعي في الاتجاه الصحيح. التغيير السلوكي المالي على المستوى الشخصي، خطوة أخرى مهمة نراها تحظى بجدية غير مسبوقة: مثل ماذا؟ مثل البحث عن مصادر دخل أخرى بزيادة الإنتاجية عن طريق المشاريع الجانبية، أو العمل الإضافي، أو إدارة المسار الوظيفي. ومثل التعلم الذاتي ومحاولة زيادة الوعي حول إدارة الأموال الشخصية، ومثل محاولة ضبط المصروفات وتحقيق التوازن الملائم، ومثل البحث عن خيارات استثمارية ملائمة، ومثل النظر بعمق إلى خط الزمن، وتصور ما سيأتي، وكيف نستعد له. نشاهد باستمرار من يبحث عن الإرشاد والتوجيه المالي، ومن يحاول بناء محفظة ادخارية لتحقيق أهدافه المستقبلية، ومن يحاول أن يصنع منظوره الخاص للاستقلالية المالية، وهذا كله من المبشرات الإيجابية في طريق صنع الثقافة المالية الجيدة.
لكن كل هذه المؤشرات الإيجابية لا تعني وصولنا إلى حالة مرضية، فما زلنا نرى من يقع في حفر القرارات المالية الخاطئة، مثل الحصول على تمويل غير ضروري، أو أكبر من إمكاناته، أو مثل أخذ المخاطرة التي لا تناسبه. ما زلنا نرى من يستقي النصيحة المالية من غير أهلها، ومن يتبع خبرا غير موثوق، ومن ينخدع بدعاية محتال. بل إن كثيرا من المفاهيم الأساسية لا تزال بعيدة عنا، تشوبها الضبابية ويحفها الخطأ. من أوضح الأمثلة، تعاملنا مع المخاطر، فلربما يتردد بعضنا في صرف بضعة ريالات على أمر يستمتع به، لكنه يخاطر بجزء كبير من رأسماله في أداة استثمارية لا يعي حجم مخاطرها، مثل الأسهم. المعضلة التي يقع فيها مثل هؤلاء لا ترتبط بتوافر الأدوات الاستثمارية الملائمة وقدرته على الوصول إليها، ولا في تبذير هذا الشخص أو مغريات السوق التي تحيط به، إنما في أنه لا يعي بعد حجم المخاطرة الملائم لوضعه المالي، ولا مقدار رغبة المخاطرة الأفضل له.
التحدي الأكبر، الذي أراه - على الرغم من هذا التطور الإيجابي السريع في الثقافة المالية - هو أن المؤثرات السلبية تتطور أيضا بسرعة خرافية، سواء كان في تحديات صنع الأموال وتنميتها، أو في مغريات المسوقين، أو في حيل المحتالين. فسوق العمل تتطور، ومتطلبات النجاح فيها تتغير باستمرار، وفرص التجارة لا تنتهز إلا بالمرونة التي تتطلب قدرا استثنائيا من التكيف، والاستغلاليون الذين يبحثون عن الضعفاء، والجهلة كثر، ويطورون من أساليبهم في كل يوم وساعة. وليس يحمي من ذلك إلا تطور سريع جدا في السلوك المالي الفردي. نعم، ساعدتنا كثير من المتغيرات المالية، التي تمس حياتنا اليومية، على التنبه لكثير من التفاصيل، مثل إجراءات إنفاذ الحقوق المالية، التي تطورت بشكل سريع، وما زالت تتطور، ومثل ثقافة إدارة الأداء، التي تربط المكافأة بجودة الإنتاجية، لكن هذا لا يكفي. حتى بوجود التطور العام الإيجابي، ووجود دورات الثقافة المالية الفردية - التي لم تكن موجودة في السابق - حتى بنيل نقاشات الاستثمارات حيزا كبيرا من نقاشاتنا الرسمية وغير الرسمية، يظل تحقيق الفوائد مرتهنا بالمجهود الفردي، والعودة إلى الأساسيات، والتحرك وفق ذلك بالطريقة السليمة. بكل بساطة، لو تغيرت بوصلة الثقافة والسلوك المالي في المجتمع بطريقة إيجابية، تظل المسؤولية الفردية هي المحدد الأساسي لما سيحصل عليه الفرد، وبه يحصد نتائجه الخاصة به، ويثبت بالتوافق مع ذلك الاتجاه الإيجابي الذي نشاهده ونتمناه.
إنشرها