لن ينال المطلوب إلا بستة

هناك نماذج كثيرة في الحياة تتناول بالحديث عن جوانب اجتماعية واقتصادية، وفيها حكم خاصة تكون محل اهتمامنا وتخصنا أحيانا لمعالجة بعض القضايا. ووددت في هذ المقال أن أتناول أبياتا شعرية قالها الإمام الشافعي، وأقتبس منها عنوان هذا المقال ليكون مدخل حديثي عن زاوية اقتصادية، وسأتناول الموضوع باختصار ضمن الحيز المتاح.
قال الإمام الشافعي:
أخي لن تنال العلم إلا بستة .. سأنبيك عن تفصيلها ببيان
ذكاء وحرص واجتهاد وبلغة .. وصحبة أستاذ وطول زمان
والبلغة يفهم منها أنها الموارد التي تكفي احتياجات الراغب في التعلم، وبصفة أعم الراغب في تحقيق هدف ما. بالمثل لن يتحقق تحول أو تطور، سواء لاقتصاد أو نشاط أو منشأة / مؤسسة ما، خاصة أو عامة، إلا بتحقيق متطلبات أساسية قبلية، أي تسبق التحول. الرغبة في التطور مطلب الجميع، لكن من ينجح قليل.
ما المتطلبات؟ كتب عنها الكثير الذي يتوزع بين كتب ودراسات ومحاضرات، وتختلف الآراء بين موسع ومضيق. وأرى خلاصتها في ستة: 1 - رؤية 2 - موارد 3 - إدارة مشروع 4 - خطة تنفيذ 5 - مهارات 6 - حوافز.
vision, resources, project management, action plan, skills and incentive
ولضيق المجال، التركيز هنا على الإدارة. يقف على رأس إدارة المشروع مدير المشروع. وتساعده إدارة يعتمد عليها المدير في الإشراف على التنفيذ وملاحقته. وهذه الإدارة ينبغي أن تكون عالية الكفاءة مهنيا وعمليا، وتتولى الإشراف القوي على إنجاز المشروع. ولها كل الصلاحيات التي تمكنها من القيام بعملها. وطبعا، لا بد من تنظيم جيد لإدارة المشروع وعملها.
من أولويات إدارة المشروع صياغة خطة عمل action plan مفصلة. وهذا عمل شاق.
وتنفيذ الخطة يتطلب حدا أدنى من المستوى المهني والأدائي في الأشخاص القائمين على التنفيذ. أما في حال انخفاض هذا المستوى، فإنه سيظهر تأثير سلبي واضح في نجاح جهود إدارة المشروع.
مطلوب خطوات فاعلة لرفع المستوى المهني في المجتمع. كما مطلوب رفع مستوى الأداء. وهذا التطوير سينعكس على مهارات وأداء أفراد ومنشآت المجتمع.
التطوير السابق له صلة ببرامج التعليم، سواء العام أو المهني والحرفي. وله صلة بسياسات التوظيف والدوام والتقييم والترقيات والإجازات، وغيرها، في القطاع العام أو الخاص أو غير الربحي.
يرتبط بتطوير الإدارة موضوع الحوافز والحرص. كيف؟ على ذوي الشأن في إدارة المشروع صناعة تفهم لدى الموظف للأوضاع الحالية بإيجابياتها وسلبياتها، وصناعة شعور عميق وقناعة قوية بمسؤولية الجميع تجاه تغييرها، ومتطلبات التحول ومدى أهميته للأجيال القادمة. والقدوة تلعب دورا كبيرا في تحقيق هذه العناصر، لأن الناس يتأثرون كثيرا بسلوكيات من يقودهم.
وبقية المقال عن أنماط سلوكية مع أو ضد التحول.
هناك ثلاثة أنماط من السلوك في التفكير والكلام والفعل: رجل يفكر ويقول ويحاول جاهدا أن يترجم أفكاره وأقواله إلى أفعال. ورجل تغلب عليه أحلام اليقظة والتحدث بها: أي أنه كثير التفكير والكلام فيما فكر فيه، لكنه قليل الأفعال. ورجل ثالث أراح نفسه من التفكير فلا يتوقع منه لا كلاما ولا فعلا.
تدار المؤسسات والشركات عادة بقيادات من النوعين الأول والثاني. وحينما يسيطر النوع الأول على القيادة يرتفع الأداء. أما إذا تغلب النوعان الثاني والثالث على إدارتها العليا، فهي مشكلة كبيرة. مثلا، كيف يكون حال مؤسسة تنتج سلعا أو خدمات ولكن كبار إدارييها يستهلكون معظم وقتهم في "تزويق" الكلام والولع بالمظاهر؟ هذا السلوك يتحول - من حيث يشعر المسؤول أو لا يشعر - إلى أداة لممارسات ضارة بأداء وإنتاجية الشركة أو المؤسسة.
وهنا مثال افتراضي. شركة تعاني مصاعب في رفع مبيعاتها، كما أنها تعاني خسائر. هذا يعني غالبا أن الشركة تعاني ضعف قدرتها على تطوير منتجاتها أو خدماتها بما يوفرها للناس بصورة مرضية. كما لوحظ ارتفاع التكاليف التشغيلية الناتجة عن عدة عوامل، كضعف استغلال طاقتها الإنتاجية. تعاقد مجلس إدارة الشركة مع مكتب استشاري لدراسة الوضع. لاحظ الاستشاري كثرة الكلام والاجتماعات الدورية. لاحظ أن قيادات في الشركة تشارك في تقديم حلول ومقترحات لمعظم المشكلات التي تعانيها الشركة، ولكن لا أثر لذلك في أرض الواقع. فمشكلات الشركة ما زالت قائمة والنتائج غير المرضية مستمرة.
تبين للاستشاري أن الشركة تعاني مشكلات إدارية جوهرية، وإحداها أن أغلب المسؤولين فيها يمكن تصنيفهم من الفئة الثانية. كان واضحا أن الشركة لن تتقدم إذا بقيت تدار وفق الطريقة الإدارية نفسها. هل التغيير في القيادات العليا سيحل المشكلة؟ قد وقد، اعتمادا على اعتبارات وأحوال.
وأختم بالإشارة إلى الشرط الثالث في شعر الشافعي، وهو الاجتهاد. يساعد على فهم أهمية الاجتهاد ما نراه في مجتمعات ودول آسيوية من إعطاء الجد والاجتهاد اهتماما بالغا. ويتضح ذلك أيضا من كثرة استخدامهم في لغاتهم الكلمات التي تدل على الاجتهاد والمثابرة. هذه الثقافة كانت عاملا مهما فيما تحقق في تلك المجتمعات من ازدهار. وتقبل الله من الجميع، والله أكبر، وعيد مبارك، وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي