موهوب البنغال أمارتيا صن: الوطن والعالم هما الشيء نفسه

موهوب البنغال أمارتيا صن: الوطن والعالم هما الشيء نفسه
أمارتيا صن أكثر من مجرد اقتصادي أو فيلسوف أخلاقي أو حتى أكاديمي، إنه ناشط مدى الحياة.

استغرقت 20 دقيقة لأخذ أمارتيا صن من منزله في جامعة هارفارد إلى مطعم في فندق تشارلز القابع على بعد دقيقتين. لا يزال عقل صن متقدا حتى في عمر الـ87، تماما كما كان حين فاز بجائزة نوبل في الاقتصاد عام 1998. ولكن جسده ضعيف جدا.
وقد خضع صن للعلاج الإشعاعي في عام 2018 لمدة 90 يوما لعلاج سرطان البروستات. وقد عانى سرطان الفم عندما كان طالبا في كلكتا في أوائل الخمسينيات. وقد أعطاه أطباؤه الهنود فرصة واحدة من سبع للعيش أكثر من خمسة أعوام. إلا أنه أدهشهم جميعا.
ومثل آلام الأسنان، التي عاناها فلاديمير نابوكوف، فإن مذكرات صن بعنوان "وطن في العالم"، تعج بمعاناته من المرض طيلة حياته، وستنشر المذكرات الأسبوع المقبل في المملكة المتحدة. بأكثر من طريقة، تعد حياته بمنزلة انتصار العقل على المادة.
مرتديا قميصا خشنا ومعطفا أصفر لامعا واقيا من المطر من هارفارد، ويكتمل مظهر صن بما يشبه قبعة لينين باستثناء خلوها من النجمة الحمراء. إنه يوم صيف ممطر في كامبريدج، ماساتشوستس. سمعت أكثر من شخص يعلق أثناء تجولنا في بهو الفندق "إنه أمارتيا صن".
واستبدل صن إحدى ركبه، لكنها ليست قوية بما فيه الكفاية لتحل محل الأخرى، ما يعني أنه غير متوازن طوال الوقت ويعاني تقلصات بسبب ضعف الدورة الدموية. ولكن وظائفه العقلية المشرقة تبدو غير معطوبة. قال لي صن بابتسامة مائلة: "لم أفقد أيا من أسناني".
ومن الصعب معرفة أين يجب البدء بحياة صن - التجسيد الفعلي للعالم المفكر الذي سافر حول العالم. حيث أسس طريقة جديدة للتفكير بالتنمية - مسعى سياسي قائم على الحقوق بقدر ما هو اقتصادي.
تبدأ المذكرات "وطن في العالم" في الهند تحت الاستعمار، التي نالت استقلالها عندما كان عمره 14 عاما، وتتوقف في عام 1963. وهذا كان قبل عمله الكبير في اقتصادات المجاعات ونظرية الاختيار الاجتماعي ونهج القدرة - كان صن مصدر إلهام تقرير التنمية البشرية في الأمم المتحدة - المساواة بين الجنسين ووظيفته في قمة المفكرين الغربيين والهنود.
وكان أول مدير لكلية كامبريدج من أصول غير بيضاء عندما أصبح رئيسا لكلية ترينيتي في عام 1998، وقام بالتدريس في هارفارد وأكسفورد ودلهي وكلية لندن للاقتصاد، إضافة إلى فترات وجيزة في أماكن أكثر مما يمكن ذكره. كما كان أول رئيس لجامعة نالاندا الهندية، المؤسسة الهندوسية المحتضرة "ويمكن القول إنها أول جامعة في العالم" أسسها الإمبراطور أشوكا في القرن الثالث قبل الميلاد وأعيد إحياؤها في عام 2014.
القليل جدا من هذا حدث قبل عام 1963. باستثناء حادثة أو اثنتين من الدراما الرومانسية، فإن مذكراته تنذر بكل ما كان قادما. أخبرني صن، الذي تزوج ثلاث مرات ولديه طفلان من زيجتيه الأوليين، أنه قد يكون من غير المهذب أن يكتب مذكرات أخرى حول حياتهم. وهو متزوج من إيما روثتشيلد منذ عام 1991، المؤرخة المرموقة التي تشغل الآن كرسيا في هارفارد. يبدو أن مجلدا واحدا سيكون كافيا. وقال صن: "أنا سعيدا جدا لإنهائي هذا الكتاب أخيرا".
إن ملحمته لم تشارف على الانتهاء بأي حال من الأحوال. حيث إنه يخطط لكتابة دراسات حول مختلف مواضيعه المفضلة. ومن بينها مستقبل التعليم العالي، الذي سيشمل نقدا حادا حول أوجه القصور الإداري في جامعة هارفارد. حيث يقضي مديرو الجامعة وقتا أطول مع المانحين من المتعلمين، الذين شبههم صن بشكل جارح بالحكم البريطاني المستبد. ويقول: "إنهم بعيدون أشد البعد عن الأوساط الأكاديمية التي يشرفون عليها. عندما كنت مديرا لكلية ترينيتي كنت أتناول الغداء مع كل طالب جامعي".
وبالنظر إلى معرفة صن الوثيقة بأمريكا، فإنه يرفض عل نحو مفاجئ التكهن بأصول الشعبوية الغربية، على الرغم من أنه يصنف وجهات نظر أمريكا على أنها أقل خطرا من تلك الموجودة في الهند. يوضح: "أظهر جو بايدن قدرا كبيرا من الاستعداد لمواجهة العالم في الأسابيع الأولى، ثم أخذ في التراجع قليلا". وينزعج صن بشكل خاص من عدم رغبة بايدن في إجراء مزيد من التحقيقات بشأن سوء استخدام دونالد ترمب المزعوم للسلطة.
والموضوع الآخر أهمية المساواة بين الجنسين. حيث تغطي أجزاء كتابه الأولى تعليم صن في جامعة شانتينيكيتان، وهي ملاذ يشبه الدير في غرب البنغال، التي شيدها والد رابندرانات طاغور في القرن الـ19، الشاعر البنغالي الحائز جائزة نوبل للآداب، الذي أعطى صن اسمه الأول، ويعني "الخالد" باللغة السنسكريتية. وكان جد صن صديقا مقربا لطاغور.
وكانت الجامعة - التي لم تتأثر إلى حد كبير بالمجاعة البنغالية الكبرى في عام 1943 وقتلت أكثر من مليوني شخص وألهمت دراسة صن التي نالت جائزة نوبل حول أن سبب الجوع عائد لعدم المساواة في المداخيل وليس من نقص الغذاء - تقدمية بشكل ملحوظ. حيث تمت معاملة الفتيات والفتيان على قدم المساواة.
وقرر صن في شانتينيكيتان أنه ملحد، وهو الأمر الذي يحرص على التأكيد بأنه، خيط فكري نبيل ومقبول في التقليد الهندوسي. ولكن إذا صوب أحدهم مسدسا على رأسه وأجبره على الاختيار، فسيختار البوذية "فلسفة بوذا، التي كانت علمانية - وليس الدين".
واستقال صن من نالاندا في عام 2015 بعد أن تولى حزب "بهاراتيا جاناتا" القومي الهندوسي الذي ينتمي له ناريندرا مودي منصب الإدارة وقام بحظر المال عن جامعة يشتبه بأنها مناهضة للهندوس. ورفضت حكومة مودي إعطاء إذن لنالاندا للاحتفال بعيد بوذا، على الرغم من أن الأمير الفيلسوف أعطى العالم عقيدة هندية.
وكان من المقرر أن يظهر صن في برنامج "النقاش الصعب" على قناة "بي بي سي"، وقد لاحظ أنه تم وصفه على جهاز التلقين بـ"العالم الهندوسي". "قلت هل ستحذفون هذا أم أرحل؟ فقاموا بحذفه".
وأخذ عنوان كتاب صن من رواية طاغور، "الوطن والعالم"، التي تدور حول تعقيدات نضال الهند ضد الهيمنة الغربية، التي تم تخليدها في فيلم "ساتياجيت راي" الذي يحمل الاسم نفسه. وبالنسبة إلى صن، فإن العنوان يستحضر المناخ العلماني الفضولي فكريا والمتسامح الذي نشأ فيه. يتذكر صن زوار الدير المذكور أعلاه، مثل إليانور روزفلت وتشانج كاي شيك، وبالطبع موهانداس غاندي الذي تم قتله على يد قومي هندوسي.
يخشى صن أن حكام الهند اليوم يحاولون القضاء على تقاليد الانفتاح. حيث أعاد حزب "بهاراتيا جاناتا" كتابة التاريخ بعد إزالته الإرث العلماني للمغول الأوائل، مثل أكبر الذي كان لديه عدد من الهندوس في المحاكم بعدد المسلمين نفسه، وبالطبع أشوكا الذي دعا إلى التسامح بين جميع المعتقدات.
ويقول صن: "لدى الهند تاريخ طويل من التعددية التي أصبحت الآن مهددة. كانت محكمة أكبر مزدهرة في أواخر القرن الـ16 عندما كانوا يحرقون الزنادقة في كامبو دي فيوري في روما". وينحى صن بعض اللائمة على فيديادر سوراجبراساد نيبول الراحل الهندي التيرنيدادي الحائز جائزة نوبل، الذي صور تاريخ السلالات الإسلامية على أنه ليلة مظلمة من الاضطهاد الذي دمر المعابد. ويقول صن: "ما كتبه نيبول كان مجرد هراء. لقد تم تبسيط قصة معقدة من قبل مجموعة من الأشخاص عن سبق إصرار".
وحقيقة أن قصة صن كعالمي لم تقلل من انتمائه للهند. وعلى الرغم من أنه يعيش في الخارج منذ عام 1971، إلا إنه يحمل جواز سفر هندي فقط. وكان يزور شانتينيكيتان قبل الجائحة إلى ما يصل خمس مرات في العام، حيث يملك منزلا. :ساعده على ذلك حق السفر مجانا مدى الحياة في الدرجة الأولى على الطيران الهندي - وهي ميزة ضخمة أعقبت جائزة نوبل".
واندلع نقاش حاد في الأعوام الأخيرة حول إرث الإمبريالية البريطانية. ويرى صن أن الهند أخذت الكثير من بريطانيا - "التقليد الصحافي القوي"، و"النقاش البرلماني" و"إنجليزية شكسبير". ولكن هذه التقلبات جاءت رغما عن الإمبراطورية البريطانية وليس بسببها، التي "في أحسن حالاتها أعطت الهند القليل جدا من القيمة". ويقول صن: "عليك أن تفصل بين الاثنين. لقد حرمت الإمبراطورية الهند من حرياتها".
وعند وصول صن لكامبريدج في عام 1935، كانت صاحبة منزله، السيدة هانجاري، قلقة من أن بشرته البنية قد تلوث حوض الاستحمام. وقد أصبحت ناشطة حقوقية للمساواة العرقية بحلول انتهاء فترة استئجاره عندها. ويقول صن ضاحكا: "لقد تحولت من عنصرية إلى مدافعة من أجل المساواة. لقد عشقت السيدة هانجاري".
وبعد 50 عاما تقريبا أصبح صن رئيسا للكلية التي قدمت إسحاق نيوتن واللوردات بايرون وتينيسون وجون درايدن وبرتراند راسل وجواهرلال نهرو ولودفيج فيتجنشتان، للعالم. واتصل توني بلير بصن شخصيا لإقناعه بتولي المنصب. وقال رئيس مجلس الإدارة في اجتماع للكلية لتحديد رئيس الكلية التالي: "صن هو الشخص الوحيد الذي قد نندم يوما ما على عدم تعيينه"، ويضيف صن ضاحكا: "كان هذا بمنزلة مصادقة مدوية. لقد كان درسا متقدما في التبسيط على الطريقة البريطانية".
تظهر جدران غرفة معيشته التي عدنا إليها بسرعة كبيرة منذ فترة طويلة، رحلة حياة العقل. هناك صور لجون راولز، الفيلسوف السياسي في جامعة هارفارد، الذي يمكن القول إنه أكثر المنظرين الليبراليين نفوذا في أواخر القرن الـ20، وويلارد فان أورمان كوين، الفيلسوف اللغوي، وكلاهما كانا صديقين مقربين "كلاهما تم رسمه من قبل زوجة راولز، مارجريت".
وهناك ضوء هالة يستخدمه صن لإضاءة المكان من حوله من أجل اجتماعات زووم. ولوحة لجامعة نالاندا لفنان صيني. وفي مكان ما في المنزل أتخيل أنه لا بد من وجود أجزاء من الدراجة القديمة التي استخدمها صن في السفر لغرب البنغال عندما كان يبحث في المجاعة.
وبالنظر حولي، اتضح لي أن صن أكثر من مجرد اقتصادي أو فيلسوف أخلاقي أو حتى أكاديمي، إنه ناشط مدى الحياة، من خلال المنح الدراسية والنشاط الإنساني وعبر الصداقات والعداوات العرضية، من أجل فكرة أكثر نبلا عن الوطن - وبالتالي عن العالم.
في عصر سياسة إثبات الهوية هذا، يرفض هذا الموهوب البنغالي أن يتم تعريفه بالأوصاف. ويقول: "الوطن والعالم هما الشيء نفسه بالنسبة إلي، وكان هذا الحال دائما، لوننا وديننا وجنسنا وجنسيتنا - هذه مجرد جوانب من ذواتنا".
وقد حثثت صن على ألا يرافقني إلى الباب عندما لاحظت أنني تأخرت على رحلتي، سيستغرق الأمر وقتا طويلا للوصول إلى هناك. "هذه ملاحظة ذكية" أجاب وهو يلوح لي مما يبدو كأنه مهجع فيلسوفي.

مذكرات بقلم أمارتيا صن - ألين لاين

الأكثر قراءة