«فلسفة اليومي» .. حكمة مغمورة يجب اكتشافها
تعد إثارة الأسئلة دون تحديد الأجوبة النهائية من الوظائف المنوطة بالفلسفة، إذ تبقى أفقا للتفكير المنفتح، وتجربة حية للذوات الفاعلة في علاقتها بالعالم، ومجالات الفعل الإنساني بصفة عامة. لكن استغراقها في مباحث مجردة "الفلسفة النظرية" مثل فلسفات العلوم "الإبستمولوجيا"، وفلسفات الوعي والتصور والإدراك "الفنومنولوجيا"، وفلسفات اللغة التي تبحث في علاقة اللغة بالفكر، وتتحرى شروط صوغ المعنى، وقرائن استقامة المعنى في التعبير... وإيجاد وشائج حول تلقي العوام للفلسفة، هذه السجالات اللا متناهية حول مواضيع معقدة أشبه ما تكون لدى الجمهور بطلاسم لغة قديمة.
حاولت الفلسفة تدارك الأمر بتدشين مباحث جديدة من شأنها تحقيق مصالحة بين الفلسفة والعامة، فخرجت من داخل قلاع الصرح الأكاديمي البحثي المحض، لتدخل في براثن معترك الحياة اليومية. فنزل الفلاسفة إلى الميدان لضمان القرب من الجماهير، مستثمرين في سبيل ذلك ما أحرزه التفكير الفلسفي من مكتسبات ثمينة، منذ أفلاطون حتى الزمن الحاضر. فهو صاحب التقسيم الثنائي الشهير: عالم المثل "الحق" مقابل عالم الماديات "الظن"، وناصر فكرة وجوب تجاوز، أو بتعبير أدق، تجاهل الفلسفة للواقع الإنساني، نحو استكشاف ومعرفة غوامض الإنسان، ذاك "المجهول الخارق".
تدريجيا، ظهرت منعطفات في تاريخ الفلسفة كسرت هذه القاعدة، بجرأتها على تحويل "العادي" و"اليومي" إلى موضوع للتفكير الفلسفي. فسعت إلى بسط التفكير في كل السبل التي من شأنها مساعدة الإنسان على العيش عيشا هادئا مريحا وسعيدا، في حدود الإمكانات التي يحملها كيانه الجسدي النفسي الروحي، مع مراعاة الواقع الزمني التاريخي. بيد أن هذه المساعي تتطلب أدوات جديدة، قصد التنقيب والحفر في أعماق الفكر والتاريخ، من أجل الكشف عن المنسي والمكبوت، وإعادة الاعتبار للمهمش والمرفوض من التفكير.
في هذا السياق، بدأت تتبلور معالم "فلسفة اليومي"، واليومي هنا بمعنى كل ما يحدث يوما بعد يوم ويتجدد. وهكذا استطاعت الفلسفة، دون أي إساءة إلى تاريخها، أن تبحث في معاني اليومي وحيثياته، دون الوقوع في فقدان قيمتها. فأصبح التحدث عن الأشياء اليومية البسيطة من قبيل النوم والاستيقاظ والسفر والعمل والكسل... ملهما ومغريا. وهكذا انقلبت الآية، فلم يعد المهم هو النظر إلى الأشياء الجديدة، بل النظر من جديد إلى الأشياء الاعتيادية.
دفاعا عن هذا الطرح قارن ميشيل فوكو بين الفلسفة والطب، معتبرا "الفلسفة تشخيص للحياة على غرار الفحص الطبي الذي يجريه الطبيب للمريض"، وفي عملية الفحص والتشخيص يكون الإنسان طبيبا في استخلاص النتائج بالتجربة والملاحظة، وسنده في ذلك "السؤال"، الخاصية الجوهرية في الفلسفة، الذي يفتح آفاقا رحبة للتفكير.
في معرض تأييد البحث في "فلسفة اليومي"، يعد عبدالسلام بن عبدالعالي المفكر المغربي "الفلسفة عندما تنصب على اليومي، وعندما تهتم بالصحافة واللباس والرياضة والمأكل والمشرب والشائعة والإشهار... فذلك سعي وراء الفصل بين الطبيعة والتاريخ، والبحث عن الجديد في المستجدات، وعن الغريب في الألفة، وعن التاريخي في الأسطورة".
حضر هذا المبحث الجديد، بدرجات متفاوتة، لدى عديد من المفكرين والفلاسفة، ممن شكل الاشتغال باليومي جزءا من انشغالهم البحثي، أمثال دولوز، ديريدا، بودريار، ليوتار... ومهدت هذه المحاولات في الساحة الفكرية الفرنسية لتأسيس "علم اجتماع اليومي" على يد ميشيل مافيزولي السوسيولوجي الفرنسي، مؤسس مركز أبحاث حول الحياة اليومية CEAQ.
يعد كتاب "تأمل العالم" (1993) أساس تدشين البحث في موضوع سوسيولوجيا، ففي المقدمة نجد "أن الغرب يشهد، منذ ثمانينيات القرن الماضي، انهيارا متواترا للبنيات المؤسسية الكبرى التي كانت تمنح معنى للمجتمع. فقد انتهى الغرب إلى ضرب من الإشباع في مجال الظواهر التجريدية والقيم الكبرى والآليات الاقتصادية والأيديولوجية. في المقابل ثمة انبثاق للكيفي واللهوي، وتجذر للصورة، وثورة في مجال التواصل. وبدأت الجماهير تركز وتتمركز حول اليومي والحاضر والأنشطة التي لا غائية لها".
أما من الناحية الفلسفية، فيبقى المفكر الفرنسي هنري لوفيفر (1901-1991) صاحب حقوق الأسبقية في المجال، فأفكاره تشكل العمود الفقري لفلسفة اليومي، حيث بدا الاهتمام بالفكرة واضحا في كتاباته، وعلى نحو خاص في كتابه الموسوم "نقد الحياة اليومية" (1947). وقد استطاع هذا اليساري الفرنسي أن ينتبه مبكرا إلى الصلة الوثيقة لمسائل الفضاء والزمان بالحياة اليومية. وتقوم فلسفة اليومي عنده على نقد الرأسمالية الحديثة، في فرنسا بصفة خاصة، وفي الغرب عامة. وهنا من النقاد من عد مشروع الرجل نقد الحياة اليومية، يندرج في إطار استراتيجيات الدفع بأفق التنوير إلى أقصى حدوده.
استطاع الموضوع أن يبقى في دائرة الاهتمام الفلسفي في الساحة الفكرية الفرنسية، فقبل أعوام أصدر الثلاثي بيير ديلو ومارتن ستيفان وتيري فورمي كتابا بعنوان "يوم من الفلسفة: موضوعات كبرى منظور إليها خلال اليومي"، قدموا فيه تأملات نقدية حول مجموعة من القضايا ذات الصلة بالحياة المعاصرة. فالكتاب أقرب إلى محاورة تدعو إلى إعادة اكتشاف اليومي، فاليومي مليء بالحكمة المغمورة التي يجب على الفلسفة إظهارها.
نجحت فلسفة اليومي في استعادة التصرفات الصغيرة في الحياة، لحمولتها الفلسفية والوجودية والميتافيزيقية، بمعنى جعلها إنسانية قبل كل شيء. ويبقى السؤال هل ثمت اختيار؟ أليست بداية الحياة هي هذا اليومي، ما يعني إجبارية الفعل والإنجاز. نعم، ولكن، وهنا تتدخل فلسفة اليومي، يجب ألا ننغمس في اليومي بما يحول بيننا وبين عيش الحياة فيه بكيفية جيدة. أليس "الزمن الذي ينفلت من قبضتنا ونتذمر لأجله، نحن من يتخلى عنه في واقع الأمر". ألم يقل فلوبير "إن كل شيء مهم، طالما ننظر إليه مليا".