Author

تنبؤات الاعتماد على النفط الخاطئة

|

صرحت شركة أو مؤسسة موديز للتصنيف الائتماني بأن دول مجلس التعاون ستستمر في الاعتماد على النفط لما يقل عن عشرة أعوام. ويجري تصوير الاعتماد على إيرادات النفط من قبل مصادر عديدة، خصوصا الغربية، بصورة سلبية كأنه شيء مقيت أو شر. لكن الحقائق التاريخية تؤكد جلب النفط خيرا عظيما وأرزاقا وفيرة للشعوب الخليجية، وهو هبة من الله لهذه المنطقة القاحلة التي كانت قبل اكتشافه تعاني كثيرا ظروف الحياة القاسية ومآسي العوز والفقر. وزود النفط هذه المنطقة بموارد هائلة ساعدت على نهضتها واستقرارها ورفع أهميتها العالمية، ومكنت شعوبها وحكوماتها من تنفيذ مشاريع البنية الأساسية، والتمتع بالحياة الكريمة خلال العقود الماضية التي يتوقع أن تستمر لفترة من الزمن.
يجري العزف كثيرا على خطورة تراجع الإيرادات النفطية، كأنه سيحدث خلال عام أو عامين أو حتى خلال عقد من الزمن. ولا تشير التوقعات الرزينة إلى انخفاض الطلب على النفط خلال العقدين المقبلين، بل إن معظمها يرى أن استهلاك النفط سيواصل نموه لكن ببطء خلال الـ 20 عاما المقبلة. وتستشرف المؤسسات المختصة أن تصل حاجة العالم إلى النفط إلى أعلى مستوياتها - عند 115 مليون برميل يوميا - عام 2041. وسيعني هذا استمرار النفط في احتلال مركز الصدارة بين مصادر الطاقة لهذه الفترة، واستمرار تدفق إيراداته طوال هذه الأعوام وأعوام لاحقة.
تملك دول مجلس التعاون ميزات تنافسية في إنتاج النفط، وهذا سيمكنها من التفوق على الآخرين في أسواقه العالمية خلال الأعوام المقبلة. وتنخفض تكاليف الإنتاج كثيرا في دول المجلس عن باقي دول العالم المنتجة، كما تتوافر لديها بنيته الأساسية المكلفة والخبرات لإنتاج النفط وتصديره، ولهذا من المتوقع أن تستمر لعقود مقبلة في تبوؤ مراكز الصدارة في صناعة النفط وتصديره لدول العالم.
توقع كثيرون قبل خمسة أو ستة عقود أن يتراجع مع مرور الوقت الاعتماد على الفحم الحجري، وأن يحل النفط والغاز ومصادر الطاقة الأخرى محل الفحم. لكن ما حدث على أرض الواقع خلال العقود الماضية كذب التنبؤات القديمة، حيث ارتفع الطلب العالمي على الفحم الحجري من 2368 مليون طن في 1978 ووصل في 2019 إلى 5407 ملايين طن. وحدثت معظم زيادة استهلاك الفحم الحجري في الصين والهند والدول النامية عموما. وتؤثر الاعتبارات والسياسات المحلية لدول العالم في خيارات وتطورات استهلاك وتنوع مصادر الطاقة. وتفوق استخدامات النفط استخدامات الفحم الحجري ولهذا سيستمر الاعتماد عليه لفترات زمنية أطول. أما مصادر الطاقة الجديدة فستنافس أكثر على تلبية جزء من النمو المتوقع في احتياجات الطاقة خلال الأعوام المقبلة ولن تخفض كميات الطلب الحالية على النفط.
استبدال مصادر الطاقة ليس بالأمر الهين، حيث يتطلب تحولات اقتصادية معتبرة واستثمارات هائلة من قبل الحكومات والشركات والعائلات. وتعتمد قطاعات كثيرة وكبيرة في جميع دول العالم على النفط ومنتجاته، حتى لو تم تطوير طاقة بديلة وأقل كلفة بشكل سريع، فإن حلولها مكان النفط سيستغرق عدة عقود. يضاف إلى ذلك أن استبدال النفط بوسائل الطاقة الأخرى سيحدث بشكل أكبر وأسرع في الدول المستوردة، بينما ستسعى الدول المنتجة - قدر الاستطاعة - إلى الاستفادة من مواردها النفطية لفترات زمنية طويلة، وهذا ما حدث فعلا للفحم الحجري. وتملك دول مجلس التعاون احتياطيات ضخمة من النفط تستطيع الاستفادة منها في توليد الطاقة لعقود طويلة حتى لو استغنى بعض العالم عنه. كما أن جزءا كبيرا من النفط يحول إلى منتجات صناعية أخرى، ما يكسب دول المجلس ميزات تنافسية في هذه الصناعات وصادراتها لعقود مقبلة.
حققت دول الخليج مستويات جيدة من النجاحات في مشاريع البنية الأساسية لبلدانها وفي تطوير الموارد البشرية، ومن المتوقع استمرار تركيزها على تنمية الموارد البشرية وتطوير بنيتها الأساسية. إن تنويع الاقتصاد يتطلب استثمارات كبيرة في الموارد البشرية تفوق حجم الاستثمارات المادية، وقطعت دول المجلس شوطا طويلا من الاستثمارات المطلوبة لتنويع المجالات الاقتصادية، وأبرزها محو الأمية والمؤسسات التعليمية المنتشرة في طول الدول وعرضها، وكذلك المنظومات الصحية، وطورت مدنها وشبكات مواصلاتها واتصالاتها للانطلاق نحو مجالات اقتصادية جديدة.
طورت دول مجلس التعاون، خصوصا المملكة، قطاعاتها الاقتصادية الأخرى، وتتوافر فرص كبيرة لتنمية القطاعات غير النفطية. ونمت مساهمة القطاعات غير النفطية بمعدلات تفوق كثيرا معدلات نمو القطاع النفطي خلال العقود الأربعة الماضية. ولهذا ينبغي ألا نقلل من حجم وقيم الإنجازات خلال العقود الماضية في تنويع الاقتصاد، وإن كان علينا بذل مزيد خلال العقود المقبلة، والتركيز بدرجة أكبر على سياسات تحفيز نمو القطاعات الاقتصادية الأخرى، وتهيئة البيئة المناسبة للتنوع الاقتصادي. إن ما تحتاج إليه المنطقة بالدرجة الأولى البيئة المحفزة للنمو والتنوع الاقتصادي، وألا تندفع كثيرا وراء سياسات تنويع الإيرادات المالية التي قد تضر بمعدلات النمو المستدام. فهدف السياسات المالية أولا وأخيرا هو تحفيز النمو الاقتصادي حتى لو كان على حساب التوازنات المالية.

إنشرها