خواطر «هو»
تنظم إجازات الأعياد حياته كرمز عشائري يرفعه "شيخه" كل عام ليعلن تعميد الفرسان الجدد لعام سيلي، ليس جرسا معلقا في أعلى برج كنيسة، أو صوتا يصدر عن مكبر صوت في أعلى مئذنة، وليس بقايا دموع ندم على حائط مبكى مزعوم، إنها لوحة سوريالية يخطها ببقايا فنجان قهوته العربية، يتمازج فيها لون البن الأشقر مع الأخضر "الهيلي" - نسبة إلى الهيل - يخطها على جدران أرواح أبنائه.
تبدو هذه الجدران له كرواق "السدو"، مليئة بروائح الآباء والأجداد، زاخرة بنقوش الصحراء والجبل، منقوعة في دبس مخلوط، طعمه حائر بين التمر والرمان ، تضوع بفخر لا يزول.
يقتات هذا "النظام" من أعماقه، يفتتها أولا إلى أجزاء صغيرة تمثل مراحل النمو والآصال والغدو، ثم يكبر كل جزء ويتضخم في ذاته متغذيا بالتطفل على ذاته، يصنع منه "رجالا" كثيرين يقفون جميعا على كتفه، يقف وحيدا على الطريق الذي يمشيه نحو إجازة عيد ستأتي، و"إجازة" فارس يجب تجديدها كل مرة.
باستثناء عيد العام الماضي، حيث طبقت احترازات التجول بين المدن، لم يقض أي عيد من 51 عيدا في غير مسقط رأسه، حيث "الشيخ" و"الشيخة"، رحلت الشيخة قبل الجائحة، وارتحل معها كل ذلك العبق، تضاعف عدد الرجال على كتفه، فقد ذلك الطفل الذي كأنه لها، وطفق يحاول الإمساك بجدار السدو، جداره الذي "انقض" ولَم يعد في إمكانه أن يقيمه، أو حتى يقيمه له أحد آخر و"يتخذ عليه أجرا".
يقارب "رشده" الذي سأله من ربه، يعدل مسارات حياة طالما حرص ألا يجعل فيها "عوجا"، ويواصل ابتهالات الجمعة تلو الجمعة: "عسى أن يهديني ربي".
هو، أحد العالقين بين الأزمنة التي أدركوها، الذين أحاطوا من كل عصر شذرة أو اثنتين، ماضيهم يكاد يساوي - بإذن الله - مستقبلهم، كيفا بالدرجة الأولى، ثم ربما كما، أولئك الذين كأنهم نقديا تفكيك "الشيبان" وبنيوية الشباب، كأنهم حلقة وصل أو جسر، ولعلهم الوسيط العقلي، والمترجم الحضاري بين سابقيهم ولاحقيهم.
يهجس بحروف قرأها، ويتوجس من أخرى كتبها، ويحاول إقناع بوصلته أن الجهات أربع، وليست واحدة، وأن القطب يكون حيث يقف، والجاذبية ليس لها سوى قانون واحد .. حتى الآن على الأقل.
يستجمع خواطره وخواطر رفاق دربه، ليسطرها أصالة عن نفسه، ونيابة عنهم، لعلها تنجح في تكون خاطرة عن ... "هو".