أوروبا البعيدة عن التعافي

"خطة الدعم الأمريكي الناجحة، تضعنا أمام مسؤولية تاريخية"
إيمانويل ماكرون، رئيس فرنسا
يبدو واضحا أن الوضع الاقتصادي في الاتحاد الأوروبي، لن يكون أفضل هذا العام على الأقل. ورغم كل التوقعات أن تتعافى منطقة اليورو في وقت قريب من الأزمة الاقتصادية التي تركتها جائحة كورونا على القارة الأوروبية، إلا أن المؤشرات تدل على عكس ذلك تماما، حتى إن بريطانيا باتت تتقدم في مسار التعافي، أو على الأقل في طريق الخروج النهائي من الانكماش، على الاتحاد الأوروبي، علما أن المملكة المتحدة كانت حتى وقت قريب موضوعة ضمن قائمة الدول الأكثر بطئا في الوصول إلى التعافي المنشود. الحالة العامة على الساحة الأوروبية ليست جيدة، وهناك متطلبات كثيرة أمام حكومات هذه المنطقة، كي تصل بها إلى ما كانت عليه قبل انفجار كورونا عالميا. صحيح أن الخلافات في الرؤى بين الحكومات الأوروبية حول التعاطي مع تداعيات الأزمة تراجعت في الأشهر القليلة الماضية، لكن الصحيح أيضا أن تردي الأوضاع الصحية طال مسارات التعافي بالفعل.
الموجة الثالثة من كورونا تضرب بالفعل دول الاتحاد الأوروبي، الأمر الذي أجبر الحكومات على تمديد إغلاق القطاع والخدمات قدر المستطاع منذ بداية العام الجاري. ورغم أن مؤشرات جيدة وإيجابية ظهرت على صعيد التعافي في الشهر الماضي، إلا أن هذا التعافي العابر جاء نتيجة تجاهل قطاع الخدمات المهيمن على التكتل الأوروبي لإجراءات العزل والإغلاق. الأمر الذي يشبه إلى حد بعيد التعافي الذي شهده أغلب الدول في صيف العام الماضي الذي سرعان ما انتهى وغاب عن الساحة. تعيش أوروبا باستثناء بريطانيا التي أصبحت مطلع العام الحالي خارج نطاق الاتحاد الأوروبي تدابير عزل صارمة لاحتواء ما أمكن من تداعيات الوباء القاتل، وهذا ما أجبر القطاعات المختلفة على الإغلاق، ودفع السكان للاستمرار بالبقاء في منازلهم.
في الأشهر الثلاثة الأولى من العام الحالي، انزلقت منطقة اليورو إلى ركود مزدوج، بسبب الموجة الثالثة من كورونا. والسبب الرئيس في ذلك، أن أوروبا بشكل عام تخلفت عن بريطانيا والولايات المتحدة في برامج التلقيح العامة، في ظل ارتباك حكومي واضح في هذا الميدان، بما في ذلك الاستقرار على لقاح بعينه. فعلى سبيل المثال، لم تحسم أوروبا مسألة اعتماد اللقاح البريطاني إلا في مرحلة متأخرة، وعانت نقص اللقاحات بالفعل، بما فيها اللقاح الأمريكي. في حين تمكنت بريطانيا من إعادة فتح جميع قطاعاتها بعد أن نجحت في توفير اللقاح على نطاق وطني واسع. فقد بلغت نسبة السكان الذين تلقوا اللقاح أكثر من 55 في المائة. وبحسب منظمة الصحة العالمية، فإن نسبة الأوروبيين الذي تلقوا اللقاح كاملا بلغت في الشهر الماضي 7 في المائة فقط.
وهذا يعني، أن بريطانيا الخارجة من الاتحاد، بإمكانها أن ترفع ناتجها المحلي الإجمالي هذا العام بنسبة تزيد على 7 في المائة، بحسب توقعات بنك إنجلترا المركزي، في حين انخفض هذا الناتج بفعل كورونا 9.8 في المائة. الأمر ليس كذلك على الساحة الأوروبية. ففي الربع الأول من العام الحالي، تقلص اقتصاد منطقة اليورو 0.6 في المائة، بعد انكماش بلغ في الربع الأخير من العام الماضي 0.7 في المائة. ما يعني أن الاتحاد الأوروبي يمر بشكل عام بركود يمكن تسميته بالتقني، بعد أن حقق بعض التعافي جزئيا. وإذا كان وضع التعافي الأوروبي مختلفا عن وضعه في المملكة المتحدة لمصلحة هذه الأخيرة، فهو كذلك على الساحة الأمريكية. فالولايات المتحدة حققت قفزات نوعية على صعيد التخلص من الركود، عبر رفع وتيرة تعميم اللقاح، وبالطبع بسبب حزمة الدعم التي قدمتها إدارة الرئيس جو بايدن، التي بلغت 1.9 تريليون دولار.
اللافت أن ألمانيا التي تعد مركزا رئيسا للحراك الاقتصادي على الساحة الأوروبية، سجلت تراجعا في الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول بلغ 1.7 في المائة. وهذا ينطبق على جميع دول الاتحاد الـ 27، في حين حققت فرنسا نموا خجولا ومعها ليتوانيا خلال الأشهر التي مرت بهذا العام. حتى في ظل بروز بعض مؤشرات التعافي خلال الشهر الماضي، مع تسريع برامج التلقيح، إلا أن موجة الركود الجديدة ماضية في طريقها على الساحة الأوروبية، إلى أن يتم حسم مسألة تدابير الإغلاق، ولا سيما في قطاع الخدمات الذي يمثل عصبا رئيسا للحراك الاقتصادي في هذه القارة. وإذا ما تمكنت الحكومات الأوروبية من الوصول إلى هدفها بتلقيح نحو 70 في المائة من السكان بنهاية صيف العام الحالي، فبإمكانها فعلا أن تدخل في مسار التعافي الحقيقي، وليس الموسمي أو العابر.
وفق المؤسسات الاقتصادية الأوروبية، فإن إعادة فتح الأعمال والحراك الاقتصادي في أوروبا، ستعزز الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 4 في المائة. وهذه النسبة ليست بسيطة حقا، خصوصا في ظل عدم وضوح الرؤية تماما على هذه الساحة الكبيرة. لكن في النهاية، كل شيء في أوروبا وغيرها بات منذ البداية مرتبطا بمدى القدرة على محاصرة وباء كورونا نهائيا. فلا يمكن عودة الحياة إلى ما كانت عليه، وهذا القاتل الذي لم يتوقعه أحد يفرض معاييره وحقائقه وأضراره وشروره على العالم.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي