FINANCIAL TIMES

صعود وسقوط إمبراطورية الألم .. قصة عائلة ساكلر والمواد الأفيونية

صعود وسقوط إمبراطورية الألم .. قصة عائلة ساكلر والمواد الأفيونية

نساء يحملن صور أبنائهن الذين ماتوا بالمواد الأفيونية، خلال وقفه أمام محكمة في مدينة بوسطن عام 2019. تصوير: سوزان كريتر "بوسطن جلوب/جيتي"

صعود وسقوط إمبراطورية الألم .. قصة عائلة ساكلر والمواد الأفيونية

كتاب "إمبراطورية الألم"

في 1980، أطلقت شركة أدوية بريطانية صغيرة مسكنا للمرضى المصابين بالسرطان. تم تطوير حبوب المورفين بطيئة الإطلاق، التي تسمى إم إس كونتين MS Contin بجهود من سيسيلي سوندرز، أحد قادة برنامج رعاية المسنين، لمساعدتهم على الموت بكرامة في المنزل، بدلا من المورفين بالتنقيط.
بعد أربعة عقود من ذلك، ظهر عقار أوكسي كونتين OxyContin، وهو أحد أكثر الأدوية ذات الشهرة السيئة في تاريخ الولايات المتحدة، كونه ساعد على إطلاق العنان لموجة قوية من الجرعات الزائدة من المواد الأفيونية من أوكسي كونتين والأدوية المنافسة التي أودت بحياة نحو نصف مليون شخص، كثير منهم في مدن الولايات الصناعية في منطقة الأبلاش مثل فيرجينيا الغربية. العائلات التي حولت أوكسي كونتين إلى منتج ناجح، وحققت المليارات في هذه العملية، أُطلق عليها اسم ساكلر.
لفترة طويلة، سلالة ساكلر، التي شملت عائلات ثلاثة أشقاء من بروكلين، اشتهرت بالعمل الخيري. قامت كثير من المتاحف بالتودد إليهم من أجل تبرعاتهم وتسمية المشاريع والمباني باسمهم، من مركز ساكلر لتعليم الفنون في متحف جوجنهايم في نيويورك، إلى معرض سربنتين ساكلر في لندن (تم تغيير الاسم لاحقا).
الأمر الذي لم يكن معروفا للجمهور كثيرا هو كيفية تدفق كثير من أموال التبرعات من شركة بيردو فارما، وهي شركة أدوية مقرها كونيتيكت يملكها اثنان من الإخوة ساكلر وعائلتيهما (كانوا يمتلكون أيضا الشركة التي تصنع إم إس كونتين في المملكة المتحدة). كان أكبر منتج لها حتى الآن هو أوكسي كونتين، الذي يحتوي بدلا من المورفين على أوكسي كودون، وهي مادة أفيونية أكثر فاعلية.
إنها ملحمة مروعة، لأسباب ليس أقلها الرفض الشديد من عائلة ساكلر لتحمل اللوم. يكتب باتريك رادين بنوع من الجفاف كيف أن ريتشارد ساكلر، الشخصية الرائدة وراء مسكن الألم، كان "قادرا على الحفاظ على درجة كبيرة للغاية من الانفصال العاطفي والمعرفي عن الواقع". المحامية الرئيسة التي تمثل بيردو كانت لديها فلسفة صارمة: "لا تعترف بشيء على الإطلاق".
قصة عائلة ساكلر وأوكسي كونتين مثال من العصر الحديث للعمل الخيري الذي يتم نشره لصقل سمعة الممولين ورجال الأعمال. الهيئات التنظيمية التي كانت تتسم بالإذعان، ونظام رعاية صحية مليء بالشوائب والجشع، سمحا لمؤسسة عائلية بنشر حبوبها، بمساعدة مستشارين بما في ذلك شركة ماكينزي وشركاه. كانت المواد الأفيونية تباع في جميع أنحاء العالم، لكن انتشارها الواسع في الولايات المتحدة كان لا مثيل له.
تمتد المسؤولية إلى ما بعد سلالة ساكلر. ارتكبت إدارة الغذاء والدواء الأمريكية ما وصفه لاحقا مفوض الإدارة في التسعينيات بأنه أحد "الأخطاء الكبرى في الطب الحديث" - إضفاء الشرعية على المواد الأفيونية.
لكن من بين ما تم الكشف عنه في كتاب رائع بعنوان "إمبراطورية الألم" من تأليف باتريك رادن كييف هو الدرجة التي كانت فيها عائلة ساكلر رائدة في الدعاية النشطة للغاية والبيع المباشر للأطباء في صناعة الأدوية الأمريكية. شركة بيردو أشاعت أوكسي كونتين بتكتيكات مشابهة لتلك التي ابتكرها آرثر، الأخ الأكبر، لحث الأطباء على وصف مهدئات ليبريوم وفاليوم من شركة روش في الستينيات.
تنص عبارة الإشادة بآرثر ساكلر في قاعة مشاهير الإعلانات الطبية على أنه جلب "القوة الكاملة للإعلان والترويج لتسويق الأدوية". بعد عقود من ذلك، عند إطلاق أوكسي كونتين في عام 1996، ابن أخيه، ريتشارد، وعد بأن بيردو ستروج له بشدة لدرجة أن الدواء سيطلق العنان لـ "عاصفة من الوصفات الطبية التي ستدفن الأدوية المنافسة".
بذلت بيردو جهودا كبيرة من أجل أن يوصف أوكسي كونتين ليس فقط للسرطان ولكن أيضا للسوق الأكبر بكثير وهي الآلام المزمنة – آلام الظهر والتهاب المفاصل وآلام العمل اليدوي. وعد أوكسي كونتين بأنه هو العلاج الذي "يبدأ به المريض ويظل معه"، ووجد جمهورا متلهفا: شهد المرضى أنه سمح لهم بالعودة إلى العمل، أو اصطحاب أحفادهم. كان يبدو على الدواء أنه يصنع المعجزات.
كييف، وهو كاتب في مجلة نيويوركر، روى في كتاب سابق بعنوان "لا تقل شيئا" قصة عملية قتل، ارتكبها الجيش الجمهوري الإيرلندي في بلفاست في السبعينيات وتمت لفلفتها، يجلب إلى كتاب "إمبراطورية الألم" أسلوب النثر الهادئ نفسه المعروف في مستندات الادعاء العام، مدعوما بأبحاث ضخمة. رفضت العائلات إجراء المقابلات وقاطعت جهوده النهائية للتحقق من الحقائق، وردت من خلال المحامين بأن أسئلته "مليئة بتأكيدات خاطئة مبنية على مقدمات زائفة".
إذا كان هناك أي شيء، فقد تم الكشف عن مواد كثيرة فوق الحد في قضايا المحكمة. يكتب كييف: "كان هذا أول مشروع قمت به على الإطلاق بحيث كان هناك بالفعل عدد كبير جدا فوق الحد من المستندات. شعرت (...) بأني غارق في طوفان من الورق". الكتاب طويل، والمؤلف يسير في خط رفيع بين الكشف عن الحقائق وإبقاء القارئ منخرطا في الكتاب.
لكن من خلال التحدث إلى أكثر من 200 شخص ممن عرفوا أجيالا من عائلة ساكلر، فإنه يعيد الحياة إلى الشخصيات المهووسة والطاقة الشرسة لبعض أفرادها، والتي تتجلى في "قوة الحياة لآرثر، وعناده الذي لا يقبل بأي نوع من الاعتراض أو الرفض، ورؤيته". آرثر، الذي يحمل شهادة في الطب النفسي، لكنه ذهب ليمتلك وكالة إعلانات ودار نشر للكتب الطبية، ابتكر وشق طريقه من خلال التزلف والمداهنة عبر عوالم الطب والفن.
تبرع بالمال لمتحف متروبوليتان للفنون في نيويورك في عام 1961 مقابل معرض يشتمل على لوحات جميعها تحمل اسمه، إضافة إلى بعض المزايا الضريبية. كتب كييف: "تلك كانت حركة كلاسيكية من آرثر ساكلر: مبتكرة، مبهرجة، ومشبوهة بعض الشيء". وفي وقت لاحق، أصبح أكبر، حيث تعهد بمبلغ 3.5 مليون دولار ليكون له جناح جديد في متحف المتروبوليتان يسمى جناح ساكلر.
توفي آرثر في عام 1987، عندما كان إم إس كونتين لا يزال جديدا في الولايات المتحدة ولم يتم اختراع أوكسي كونتين بعد. تقاتلت العائلات على ميراثه، وباع أبناء آرثر حصته في بيردو لأخويه مورتيمر وريموند مقابل 22 مليون دولار. كانت "صفقة غبية بشكل مذهل" بالنسبة لمورتيمر من الناحية المالية، لكنها عزلت أبناء آرثر عن الكارثة التي أعقبت ذلك.
ريتشارد، نجل ريموند، الذي اعتبره موظفو بيردو "أشبه بأمير ضعيف، وشخص سطحي صاحب امتيازات"، تولى مسؤولية الشركة، على الرغم من أنه كان يحتمي خلف دائرة من رجال الحاشية التنفيذيين عندما تصبح الأمور صعبة. ظهرت الأصداء بعد وقت قصير من إطلاق أوكسي كونتين، مع الموجة الأولى من الوفيات بجرعات زائدة.
كان بعض الضحايا من المدمنين الذين يسحقون الحبوب لإفراز مخدراتهم ويقومون بشمها مثل الهيروين. كثير من هؤلاء كانوا أشخاصا وجدوا أن الإطلاق البطيء للحبوب لم يخفف الألم خلال الـ12 ساعة الموعودة، وكانوا يزيدون جرعتهم. ظلت بيردو غير مكترثة: "لم يكن الدواء هو المشكلة، كما أكد ريتشارد. كانت المشكلة إساءة استخدام الدواء".
كان لدى عائلة ساكلر المالكة لشركة بيردو حافزا لمواصلة بيع أوكسي كونتين، حتى بعد قضية عام 2007 التي أقرت فيها بيردو بالذنب في تهمة فيدرالية لسوء العلامة التجارية ودفع تسوية بقيمة 600 مليون دولار. وصوتوا ليدفعوا لأنفسهم 325 مليون دولار في ذلك الشهر، وحصلوا على ما مجموعه 4.3 مليار دولار من عائدات أوكسي كونتين بين عامي 2008 و2016. كان سحب الدواء يعني إنهاء الأرباح الطائلة.
مع تصاعد الجدل، لجأت عائلة آرثر إلى أن يطلقوا على أقربائهم من العائلة نفسها اسم "عائلة أوكسي ساكلر"، بينما تصرف أبناء عمومتهم الأصغر سنا في لندن ونيويورك كما لو أنه لا علاقة لهم بهم. تم إسقاط الإمبراطورية أخيرا: أعلنت شركة بيردو إفلاسها بموجب الفصل 11 في عام 2019 وقدم المالكون، أفراد عائلة ساكلر، عرض تسوية إلى 24 ولاية ومقاطعة كولومبيا بقيمة 4.3 مليار دولار في آذار (مارس).
الكتاب يصور عائلة ساكلر على أنها عصبة مجردة من الحياء، لكن "إمبراطورية الألم" يطرح أيضا أسئلة مقلقة حول نظام الرعاية الصحية في الولايات المتحدة الذي سمح لهم بالازدهار. توفي آرثر قبل أوكسي كونتين، لكن كيف يكتب أنه "خلق العالم الذي يستطيع فيه أوكسي كونتين أن يفعل ما فعله". فهو يظل عالما من التسويق الباذخ والثغرات التنظيمية.
يقول كييف: "في بعض أجزاء منطقة أبالاتشي، كان الناس يقرنون أوكسي كونتين بالفاليوم – أحدهما من أقراص ريتشارد ساكلر والآخر من أقراص عمه آرثر. وقد أطلقوا عليها اسم ’نشوة كاديلاك‘". المهدئات والمواد الأفيونية كانت تسكِّن الألم لبعض الوقت، لكنه كان يعود دائما.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES