أحمد التوفيق .. مؤرخ وروائي في جبة وزير

أحمد التوفيق .. مؤرخ وروائي في جبة وزير
أحمد التوفيق .. مؤرخ وروائي في جبة وزير
أحمد التوفيق .. مؤرخ وروائي في جبة وزير

يعرف أحمد توفيق، وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية، بأطول الوزراء في تاريخ الحكومة المغربية، فقد عين على رأس الوزارة التي توصف بالسيادية، عام 2002، ضمن أول حكومة مغربية، أشرف الملك محمد السادس على تشكيلها. تولى تدبير الشأن الديني المغربي في فترة حساسة، سبقتها أحداث 11 أيلول (سبتمبر) 2001 في الولايات المتحدة الأمريكية، وتلتها تفجيرات 16 أيار (مايو) 2003 في المغرب. سياق فرض عليه قيادة مشروع إعادة هيكلة الحقل الديني المغربي، بغرض محاربة التطرف والتشدد، في وزارته التي تنأى عن الحسابات السياسية، فهي تابعة بشكل مباشر للملك أكثر من رئيس الحكومة.
أقلية فقط تعرف أن وراء جبة وزير، حافظ على منصبه لنحو عقدين من الزمن، يختفي روائي ألمعي في الرواية التاريخية، التي عادت بقوة أخيرا، من خلال استدعاء التاريخ بحثا عن أجوبة لقضايا الزمن الراهن. يصر الرجل على إسكات صوت المبدع فيه، وإن تحدث فغالبا ما يكون من خلال قلم يفيض مغامرات سردية رائعة على الورق.
حدث هذا مجددا في العام الماضي، حين عاد توفيق إلى عالم الرواية، بعد انقطاع دام 20 عاما، بإصدار روائي جديد، حمل عنوان "جيران أبي العباس" (2020)، يحكي فيه سيرة أبي العباس السبتي، أحد أشهر رجالات مراكش، تلقب المدينة باسم مدينة "السبعة رجال"، في نسيج روائي يحضر فيه أمراء وعلماء وفلاسفة، كانوا عنوان ازدهار ونهضة العصر الموحدي في الغرب الإسلامي.
تبدو رواية "جيران أبي العباس" وكأنها صدى لرواية "جارات أبي موسى" (1997)، التي كانت باكورة أعماله الروائية، فبواسطتها ولج حقل الرواية قادما من عالم التاريخ. واستلهم الفكرة، كما يحكي، عند مطالعته، في قاعة انتظار في مطار باريس، رواية "الخيميائي" للبرازيلي باولو كويلو، حيث انجذب إلى حكمته المتصلة بالتراث الصوفي. ثم ربط بين فكرة الرواية والتراث الأندلسي، فحاول البحث عن حكمة مماثلة جعلها موضوع رواية، فكتب بعد بضعة أشهر "جارات أبي موسى".
يتحدث أحمد توفيق، في روايته الأخيرة، عن سيرة أبي العباس السبتي، صاحب مذهب "الوجود ينفعل بالجود". وقد سبق لهذه الشخصية أن كانت سيرتها ومذهبها، موضوع درس ديني ألقاه في حضرة عاهل البلاد. تعرض الرواية لحياة أبي العباس من خلال التركيز على مسألة إنسانية مهمة هي مسألة العطاء، وقد تدرج في مذهبه ذاك، حتى بلغ مرحلة كان يعطي فيها كل ما يقع في يده، ولا يحتفظ لنفسه وأهله إلا بالعشر، فكانت له - كما قال - كرامة أن يدعو فيستجاب له.
أبو العباس السبتي أحمد الخزرجي من سبتة إلى مراكش، عند دخول الموحدين إليها خلفا للمرابطين، عام 540 هجرية، دخلها وهو في ريعان شبابه، وقضى فيها 60 عاما، حتى وافته المنية عام 601 هجرية. أما عن لفظة "الجيران" التي تسبقه في عنوان الرواية، فيقصد بها دولة الموحدين في نشأتها وازدهارها. ويعد هذا العهد من أزهر عصور تاريخ المملكة المغربية بخلفائه وعلمائه ومفكريه.
يذكر أن هذه الشخصية التاريخية، ذات المذهب الفريد، أثارت انتباه عدد من الفلاسفة، منهم أبو الوليد ابن رشد الذي أرسل إليه من يجالسه، ويرفع عنها تقريرا إليه. فلما بلغه خبرها، قال قولته الشهيرة "هذا رجل مذهبه أن الوجود ينفعل بالجود"؛ بمعنى أن كل الأسباب تتجاوب مع العطاء، فإذا أعطيت ملكت سر الوجود.
في سجل أحمد توفيق ثلاث روايات أخرى، "شجيرة حناء وقمر" (1998) و"السيل" (1998) و"غريبة الحسين" (2000)، وسيرة ذاتية "والد وما ولد" (2009) في جزأين، يحكي فيها عن طفولته وشبابه. علاوة على مصنفات عديدة في التاريخ، يبقى أشهرها كتاب "المجتمع المغربي في القرن الواحد والعشرين: إينولتان 1850-1912" (1984).
تثير أعمال الرجل أكثر من سؤال بشأن علاقة الروائي بالمؤرخ، لكون معظم رواياته تستقي من التاريخ حبكتها، علاوة على أنه مؤرخ قبل أن يكون روائيا. فقد كان أستاذ محاضرا للتاريخ في الجامعة، وشغل منصب مدير معهد الدراسات الإفريقية. ثم محافظا للخزانة العامة للمملكة المغربية.
يفرض توفيق المطابقة بين العالمين، لأن المؤرخ يبحث فيما وقع في الماضي، سياسيا كان أو اجتماعيا أو ثقافيا أو علميا، معتمدا في ذلك على وثائق مادية مكتوبة أو شهادات شفوية، قصد تقديمه للناس بطريقة علمية بهدف الإقناع، ما يجعل المؤرخ مقيدا في القول والكتابة. بينما يقدم الروائي مزيجا من الحقيقة والخيال، وقد يصنع أشخاصا لا وجود لهم، ليعطي عبرهم المعاني والعبر، وله أن يستفيد من التاريخ إذا كان ما يكتبه رواية تاريخية.
وقد حدث هذا مع أحمد توفيق، في روايته "شجيرة حناء وقمر"، حيث يتحدث في فصل عن أحد الأعيان الذي اعتزم الزواج مرة أخرى، واستدعى صائغا يهوديا. فكان هذا الأخير يعرض ما سيصنع له، والآخر يشترط عليه تفاصيل تطلب كتابة صفحات عنها قراءة مؤلفات عن الحلي المغربية. الأمر ذاته يسرى على رائعة "غريبة الحسين"، حيث حضرت الموسيقى الأندلسية بتفاصيل كثيرة، لا مجال للإلمام بها دون قراءة وبحث بشأنها.
ختاما، تجدر الإشارة إلى أن روايته "جارات أبي موسى" تحولت عام 2003 إلى فيلم سينمائي. رغم تحفظ أحمد توفيق على كيفيات تنزيل النص الروائي في الفيلم، فقد تحفظ مثلا على مسألة "إبطال الزمن"، بمعنى أن تورد في زمن ما أمرا غير ممكن، وأن تضع في فم شخص كلاما ليس متوقعا أن يصدر منه في ذلك الزمن.

الأكثر قراءة