Author

بناء القدرات المالية وتدوير المعرفة العملية

|
تمر التخصصات المالية محليا بثورة - إن صح التعبير - مقارنة بوضعها السابق قبل عقد أو عقدين من الزمان. فرصة الخريج أكبر اليوم، والمنافسة على أصحاب المهارة شديدة جدا والمسارات المهنية متنوعة ومتاحة لمن يود تطوير نفسه مهنيا. ومقابل ذلك، هناك احتياج أعلى من المعروض من هذه القدرات، إذ ما يزال كثير من الممارسات - مع وجود العنصر الأجنبي - تفتقد إلى النضج وتنبئ بفرص نمو ممتازة. ومع أن المسيرة منطلقة وهناك تطورات جذرية في البنية التحتية التي تدعم بناء هذه القدرات إلا أنها تفتقد كثيرا من الهيكلة الضرورية التي إن وجدت ستعظم من مسيرتها وتحول هذه القدرات من مجرد وسيلة لسد الفراغ إلى استثمار وطني مميز. على سبيل مثال، قدرة هذه الحركة المتنامية على إعادة تدوير المعرفة العملية والحفاظ عليها.
سأستخدم مثالا بسيطا مجربا في بيئة الأعمال دوليا ومحليا، كثير من مقدمي الخدمات المرموقين يسوقون خدماتهم بالتركيز على عناصر القيمة التي يستطيعون استثمارها لمصلحة من يستفيد من خدماتهم. وعلى رأس هذه العناصر تأتي المعرفة العملية، وهذه المعرفة العملية لا تتمثل في معرفة فرد أو عدة أفراد متميزين في بنائهم المعرفي النوعي أو يمتلكون كما هائلا من الخبرات، بل على العكس، الخبرات الإدارية الحقيقية لمعظم من يقدم الخدمات الاستشارية ضعيفة جدا، معظمهم بنى مساره المهني كمستشار مبتدئ، وتعلم كيف يحول المعرفة المتاحة إلى حلول يرغب عملاءه في الحصول عليها. وهذا لا يعني أن هذه الشركات لا تملك ما يستحق أن ينظر إليه المستفيد، كلا، لديها في العادة منظومة معرفية منتظمة، تتمثل في شبكة من الأفراد المتوزعين جغرافيا في مكاتبهم التي تنتمي إلى كيان عالمي موحد أو عضويات مهنية تقوم على تبادل المعرفة، وهي كذلك تتبنى ترتيب داخل المنظمة يقبل مشاركة الممارسات والنماذج والمعارف بكفاءة مرتفعة. تتميز هذه الشبكات الاستشارية - إن صح التعبير - بدوائر المعرفة المختصة، وقواعد البيانات المتميزة المصممة للاستغلال وتقديم الخدمات، بل إن هذه القواعد متميزة حتى إنها أصبحت قابلة للبيع أو "بزنس" مستقل لهذه المنظمات.
مما شاهدناه أخيرا من مؤشرات تطوير البنى التحتية للقطاع المالي والجوانب المعرفية والمهارية تحديدا، إعلان شركة أرامكو الأخير بخصوص أكاديمية التميز التي تتخصص في دعم وبناء القدرات المالية في المملكة، وسبقها التطور الجذري الذي حصل للمعهد المصرفي العريق الذي تحول إلى أكاديمية مالية تعنى بتطوير الكوادر في القطاع المالي عامة. وهناك بلا شك الدور المهم الذي تقوم به المؤسسات المهنية المالية والمحاسبية والجهات المشرفة مثل هيئة المراجعين والمحاسبين وهيئة الزكاة والدخل حتى الجهات الداعمة للشهادات المهنية مثل صندوق الموارد البشرية. لكن، كل هذه المنظومة إضافة إلى دور الجامعات المحوري ودور مؤسسات القطاع الخاص التدريبية والتأهيلية يشكل جانبا واحدا فقط من العملة، وجانبها الآخر المهم لا يرتبط بالتأهيل المباشر وإنما بمنظومة المعرفة العملية المتاحة لمقدمي الخدمات تحديدا.
عندما نتحدث عن مقدمي الخدمات المالية وبناء القدرات، فنحن لا نتحدث بالضرورة عن دور استشارية كبرى أو موظفين يعملون في منظمات ضخمة تستطيع أن ترفع من موازنة التدريب أو الاستثمار في أنظمة المعرفة بعشرات الملايين بتعديل بسيط قد لا يتجاوز 1 في المائة من مصروفاتها. نحن نتحدث عن قاعدة كبرى تمثل المحرك الرئيس لنمو القطاع المالي وهم: الشركات المالية المختصة الصغيرة، والمستشارون الجدد، ومقدمو خدمات التوريد المالية، وشركات الفنتك، وصغار المهنيين الذي نتوقع منهم أن يملأوا السوق بعد اكتسابهم الخبرات الملائمة. ومثل هؤلاء يحتاجون وبشدة إلى برامج مختصة لبناء القدرات المرتبطة بتقديم الخدمات المالية.
بناء القدرات هنا لا ينحصر على التأهيل المباشر، وإنما على إتاحة المعرفة العملية ومساعدتهم على بنائهم. قد تكون منصات عامة لمشاركة أفضل الممارسات أو تذليل العقبات بالتعاون مع كبار اللاعبين العالميين لإتاحة جزء من معرفتهم - ولو بمقابل - لهؤلاء الأصغر حجما، أو إطلاق برامج لتحفيز وترويج مقالات الأوراق البيضاء White Papers التي تهتم بتوثيق الحالات وتمرير المعرفة العلمية، وفق مستهدفات معرفية عملية ولا يمنع أن يستفاد منها تسويقيا. يشتكي كثير من باحثي الجامعات من صعوبة التفاعل مع القطاع الخاص، وكما تدعم الأبحاث التي تستهدف الابتكار وتحقيق المنفعة التجارية commercialization فمن الأحرى كذلك أن تدعم الأبحاث النوعية الملائمة التي تسمح بتحريك ثقافة الحالات العملية والمعرفة المرتبطة بالممارسات المالية. ومن تجربة مهنية وعملية، هناك كم هائل من المواضيع الفنية التي لم يتطرق إليها أحد، وهناك نقص شديد في الإرشادات المختصة لمقدمي الخدمات المالية، الذين لا يملكون القدرات نفسها التي تملكها المنظمات الكبرى، وكما نرى اندفاعا نحو التخصصات المالية، وتطورا في بنية التأهيل المهني، من الرائع أن نرى تطورا موازيا في بناء المعرفة العملية المتاحة لهم، تدويرا لمعرفة يستفيد منها الجميع وتحقق دعما أصيلا للقطاعين المالي والتجاري في المملكة.
إنشرها