ثقافة وفنون

حركة اللصوصية .. موقف سياسي أم حاجة اجتماعية؟

حركة اللصوصية .. موقف سياسي أم حاجة اجتماعية؟

سجّل اللصوص مواقفهم حيال قضايا ومواضيع مجتمعاتهم في قصائد شعرية.

حركة اللصوصية .. موقف سياسي أم حاجة اجتماعية؟

تم تخصيص سارق الإبل بوصف الخارب والمحترس.

احتفت الثقافة العربية بظواهر فئات اجتماعية استثنائية، كان لها حضور داخل المجتمع الإسلامي، قلما نجد لها نظيرا في الثقافات العالمية الأخرى. تعد ظاهرة اللصوصية إحداها، فقد شغلت حيزا في متن التراث العربي، الشعري والسردي على حد سواء، فقد باتت أشبه بحركة ممتدة في التاريخ العربي، لها قوانين وقواعد ورواد وأعلام وشعراء وحتى "أخلاقيات".
اللغة العربية بدورها، وعلى غرار الثقافة العربية، اهتمت بهذه الفئة الاجتماعية، ففي اللسان العربي مرادفات كثيرة لكلمة لص، نذكر منها السارق والأمرَط، والأمعط للسارق الخبيث الذي لا يعِف عن أي شيء، وتم تخصيص سارق الإبل بوصف الخارب والمحترس، ويطلق على الشخص الذي لا يرى شيئا إلا سرقه المِلط والشِّص، والسِبْد للرجل الداهية في اللصوصية. فضلا عن الثراء اللغوي، من حيث المرادفات، يحظى اللص بكنايات عديدة في الثقافة العربية، فهو "ابن الطريق" و"ابن الليل" و"ابن غبراء"، ومن ذلك قول الشاعر طرفة بن العبد البكري في معلقته "رأيت بني غبراء لا ينكرونني/ ولا أهلها هذاك الطِراف الممدد".
يبقى المعنى الأساسي لكلمة اللص دائرا على الأخذ من الغير بدون حق، واتخذت الظاهرة عبر التاريخ العربي، صورا وقوالب عديدة، حسب السياق السياسي والظروف الاجتماعية لكل مرحلة. فارتبطت اللصوصية مثلا، في المجتمعات العربية لما قبل الإسلام بظاهرة الصعلكة، التي تكون مصير كل متمرد على سلطان وقواعد وأعراف القبيلة، فيقضي بقية حياته خليعا طريدا مشردا، وكان هذا دافعا ومحفزا على استمرار تمرده، وبالتالي سعيه إلى تأمين متطلبات حياته عن طريق الإغارة والسلب. وجب التنبيه هنا إلى أن اللصوصية في المعنى أهم من الصعلكة، فكل صعلوك لص، وليس كل لص صعلوكا. فالصعلكة تنطوي على جملة من المبادئ الأخلاقية كالكرم والشجاعة والمروءة... وليس بالضرورة أن تتوافر هذه الصفات في كل لص آثم.
وتقلب أحوالهم في بقية العصور، فهم لصوص وفُتَّاك في العصر الأموي، منقسمين بين لصوص كفاية ذات اليد، وأصحاب موقف سياسي "الخوارج"، يترجم في زعزعة الاستقرار عن طريق قطع الطرق. ثم صاروا شطارا وعيارين في العصر العباسي، سطع نجم حركتهم في بغداد، أواخر القرن الثاني للهجرة، بعد خلاف المأمون مع أخيه الأمين، حول خلافة أبيهما هارون الرشيد. فوقف هؤلاء إلى جانب الأمين ضد المأمون، واستمر حضورهم بعد ذلك، بدرجات متفاوتة، في المجتمع الإسلامي حتى العصرين المملوكي والعثماني.
انعكس هذا الحضور بجلاء في الأدب العربي، خصوصا في الحقب التي شهدت ازدهار الظاهرة، فألفِت كتب ومصنفات، ونظِمت القصائد والأشعار عن اللصوصية، لدرجة أن بعض النقاد نحتوا مصطلح "شعر اللصوص"، للدلالة على شعراء كانوا أعمدة في عصابات وجماعات قطاع الطرق. وحظي هذا الإرث الثقافي الفريد بالاهتمام في أمهات الكتب، فنجده في كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني، ولدى ابن ميمون البغدادي في "منتهى الطلب في أشعار العرب".
أما الجاحظ، سوسيولوجي ذاك الزمان، فلم يهمل هذه الشريحة الاجتماعية النوعية، بل خالطهم وسجّل طائفة من أخبارهم، ونقل عنهم بعض أفكارهم وطرقهم في السرقة والحِيَل التي يستخدمونها، كل ذلك في كتاب "أخلاق الشطار". وذهبت أصوات إلى اتهام الجاحظ بالتعاطف مع بعض جماعات اللصوص، فقد قدم في متن الكتاب دستورهم بشكل جيد، وجعلهم أصحاب رسالة، فهم يسرقون الأغنياء ويساعدون الفقراء، وإن أخذ عليهم أساليبهم غير الشرعية.
لقد صنع القوم لأنفسهم قواعد فقهية قصد تبريرهم غاراتهم، واستهدافهم أموال الخراج، وأموال بيت المال، وقوافل ومحال التجار. وسندهم في ذلك أن السلطة ظالمة مجحفة، وأن التجار لا يؤدون الزكاة. وأنهم باللصوصية لا يقومون سوى باسترجاع ما يستحقونه، دون ذُل السؤال وهوان النفس. هذا هو "التأويل الفقهي" الذي وظفه اللصوص لأخذ المال عنوة، تماشيا مع قول شاعرهم "وأسرق مال الله من كل فاجر/ وذي بطنَة للطيبات أكول".
نذكر ارتباطا بالشعر أن الشاعر السوري عبدالمعين الملوحي أصدر كتاب "أشعار اللصوص وأخبارهم" جمع فيه وحقق أخبار 65 من الشعراء اللصوص. وافتتحه بإهداء غريب، ينحو منحى موقف الجاحظ، جاء فيه "إلى الذين ينكرون الظلم في كل مكان، أهدي شعر الشعراء الذين أنكروا الظلم قديما في أرضنا العربية".
سجّل الشعراء اللصوص مواقفهم، حيال قضايا ومواضيع مجتمعاتهم، في قصائد شعرية، لم يصلنا سوى قليل منها، فهذا مالك بن الريب التميمي يكشف أن الظلم والجور داعيان وراء تمرده، قائلا "إن تنصفونا يا آل مروان نقترب/ إليكم وإلا فأذنوا ببعاد، فإن لنا عنكم مراحا ومذهبا/ بعيس إلى ريح الفلاة صوادي، وفي الأرض عن ذي الجور منأى/ ومذهب وكل بلاد أوطنت كبلادي".
أنشد الأحيمر السعدي مدافعا عن نفسه وأعماله، مفضلا حياة اللصوصية في الطرق في فلوات العراق، فيقول في رائيته المشهورة "عوى الذئب فاستأنست بالذئب إذ عوى/ وصوت إنسان فكدت أطير، يرى الله أني للأنيس لكاره/ وتبغضهم لي مقلة وضمير، فلليل إن واراني الليل حكمه/ وللشمس إن غابت على نذور، وإني لأستحيي من الله أن أُرى/ أطوف بحبل ليس فيه بعير، وأسأل المرء اللئيم بعيره/ وبعران ربي في البلاد كثير، لئن طال ليلي بالعِراق لربما/ أتى لي ليل بالشام قصير، لقد كنت ذا قرب فأصبحت نازحا/ بكرمان ملقى بينهن أدور". ويتحدث عن أخلاق اللص في مكان آخر من القصيدة، قائلا "أراني وذئب القفر إلفين بعدما/ بدأنا كلانا يشمئز ويذعر، تألفني لما دنا وألفته/ وأمكنني للرمي لو كنت أغدر، ولكنني لم يأتمنّي صاحب/ فيرتاب بي ما دام لا يتغير".
بلغ التأريخ بهؤلاء حد توثيق لحظات كفهم عن أعمال السرقة، وعدولهم عن اللصوصية، ومنهم يزيد بن الصقيل العقيلي الذي يقول في توبته: "ألا قل لأرباب المخائض أهملوا/ فقد تاب مما تعلمون يزيد، وإن امرأ ينجو من النار بعدما/ تزوَّد من أعمالها لسعيد، إذا ما المنايا أخطأتك وصادفت/ حميمك فاعلم أنها ستعود". وذهب عبيد بن أيوب العنبري، المكنى أبا المطراب، إلى التهديد بعودة إلى السلب جراء ظلم الناس له بعد توبته، قائلا "ظلمتُ الناس فاعترفوا بظلمي/ فتبث فأزمعوا أن يظلموني، فلست بصابر إلا قليلا/ فإن لم ينتهوا راجعت ديني".
تبقى أشهر جماعة لصوص في التاريخ العربي، تلك التي قادها شظاظ الضبي، وكان من أخبث اللصوص، حتى ضرب به العرب المثل فقيل "ألص من شظاظ"، ولم يكن فقيرا لأن أمه من أثرياء بني كندة، غير أنه آزر الفقراء فتفرغ للصوصية مع آخرين، أمثال مالك بن الريب وأبي حردبة وآخرين. إذ شكلوا عصابة تقطع الطريق على قوافل الأثرياء، في بطن فلج اليمامة، ويخيفون السبيل فيه.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون