Author

الإنسان بين العالمين .. المادي والسيبراني

|

نحن في العالم المادي عندما ننام ونصحو، ونأكل ونشرب، ونسير أو نقود السيارة، نحن في هذا العالم في السكون والحركة، في العمل والراحة، بل في كل الأوقات. لكن وعينا ونشاطاتنا المعلوماتية في هذا العصر لا تبقى معنا في العالم المادي كل الوقت، بل تنتقل إلى عالم آخر هو عالم الإنترنت ومعطياتها، أو ما بات يطلق عليه وصف العالم السيبراني. ينتقل وعينا وتتوجه نشاطاتنا المعلوماتية إلى العالم السيبراني عندما نستخدم الجوال، ونتواصل مع الآخرين عبر وسائط مختلفة، مثل شبكات التواصل الاجتماعي، حيث نقرأ معطياتها، وربما نشارك فيها. نعيش بوعينا في العالم السيبراني عندما نعمل عن بعد، نحضر الاجتماعات واللقاءات، ونجري الحوارات، ونمارس الوظائف المعلوماتية، الفكرية منها، كالتعليم والتعاون البحثي وبرمجة الحاسوب، والخدمية منها، كالتعامل عن بعد مع الإنسان أو الآلة الذكية من أجل تنفيذ خدمات ومتطلبات اجتماعية ومهنية مختلفة.
حياتنا، في هذا العصر إذا باتت بين عالمين، الأصل بالطبع حياتنا في العالم المادي، لكن الواقع ينقل وعينا وفكرنا، بل كثيرا من نشاطاتنا المهنية والاجتماعية، إلى العالم السيبراني. ساعات طويلة من حياتنا نقضيها في العالم السيبراني، أو ربما نقول بدقة أكبر مع العالم السيبراني. ويبدو هذا التوجه متزايدا في مختلف أنحاء العالم، ولا شك أن فيروس كورونا قد أسهم في تسريع هذا التزايد، لأن العالم السيبراني كان بمنزلة ملجأ لتنفيذ كثير من الأعمال المفيدة، في أوقات العزل والتباعد التي فرضها هذا الفيروس الخبيث. ولو أننا من أهل نظرية المؤامرة لظننا أن مؤسسات التقنية الرقمية كانت وراء الإسهام في نشره، كي يتجه العالم نحوها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من الأعمال والنشاطات المختلفة. لكن عيون الواقع تقول: إن الأمر لا يمكن أن يكون كذلك، وإذا أردنا أن نكون أكثر حرصا على صياغة لا تغضب أحدا، فلعلنا نقول: من العسير أن يكون الأمر كذلك.
يتمتع العمل المعني، وكذلك التواصل الاجتماعي، عبر العالم السيبراني بخصائص متعددة، تؤثر في حياة الإنسان وتتأثر بها، وتنتج عنها متطلبات مختلفة. وإذا كان الإنسان قد عاش في العالم المادي فعلا ووعيا ومعلوماتيا لحقب وعصور طويلة، فخبر شؤونه ونظم حياته على أساسها، فهو لم يعش وعيا ومعلوماتيا في العالم السيبراني إلا لاحقا، ولأعوام لا تزال محدودة، لم تمكنه بعد من استيعاب جميع تداعياته وآثاره كي يسعى إلى تنظيمها بالشكل الذي فعله مع العالم المادي. وسنحاول مناقشة جانب من هذا الأمر، فيما يلي، مع محاولة وضع بعض الملاحظات بشأنه.
لعل أبرز خصائص العمل المهني والتواصل الاجتماعي عبر العالم السيبراني، جعل العالم مفتوحا أمام الجميع، لا حدود جغرافية، أو ثقافية، أو سياسية، أو معرفية فيه، إلا عبر وسائل خاصة تتوخى حماية خصوصية مطلوبة.
في هذا العالم المفتوح يستطيع كل وحدة استراتيجية على مستوى الإنسان الفرد، أو المؤسسة، أو الدولة، أن تكون إيجابية في سلوكها، تخاطب الوحدات الاستراتيجية الأخرى بموضوعية معززة بالأخلاقيات، تستفيد من المعلومات المفيدة التي توفرها هذه الوحدات للجميع، كما توفر في المقابل معلومات مفيدة أخرى للجميع أيضا. على الجانب الآخر، يستطيع كل وحدة استراتيجية أن تكون سلبية أيضا، تخترق بصورة غير مشروعة خصوصية الوحدات الأخرى، تشوه ما لديها من معلومات، أو تبث فيها معلومات خاطئة، وربما تسعى أيضا إلى إعاقة ما تقدمه من خدمات، وصولا حتى إلى وقف أعمالها المهنية، وإخراجها من نشاطات التواصل عبر العالم السيبراني.
شهد العالم السيبراني عبر الأعوام السابقة، كلتا الحالتين - الإيجابية منها والسلبية -، وذلك من مختلف الوحدات الاستراتيجية حول العالم. أسهمت الحالات الإيجابية في تعزيز دور العالم السيبراني في حياة الإنسان، أما الحالات السلبية فلم تأخذ الاتجاه المعاكس، ولم تؤد إلى إعاقة هذا الدور، بل اتجهت نحو العمل على حماية العالم السيبراني من أجل الاستمرار في الاستفادة من مزاياه. وهكذا برزت قضية الأمن السيبراني Cybersecurity على مختلف مستويات الوحدات الاستراتيجية بما في ذلك الدول، والمؤسسات، والأفراد.
على مستوى الدول بات الأمن السيبراني جزءا من الأمن الوطني، خصوصا أن صراعات العالم المادي أخذت طريقها إلى التأثير في العالم السيبراني. وفي هذا المجال تبنت الدول المختلفة سياسات خاصة بها، تضمنت مواجهة التحديات السيبرانية السلبية التي قد يسببها الآخرون، ليس بوسائل دفاعية فقط، بل بأساليب هجومية أيضا. وكما هو الحال في العالم المادي، دخلت الأمم المتحدة UN وسيطا يحاول تنظيم الحياة بين الدول في العالم السيبراني، وبرز في هذا المجال تعبير الدبلوماسية السيبرانية Cyber Diplomacy للإشارة إلى الجهود المرتبطة بالأمن العالمي للفضاء السيبراني. ولعل لنا عودة إلى طرح ومناقشة هذه الجهود في مقال مقبل بمشيئة الله.
كما يحدث بين الوحدات الاستراتيجية على مستوى الدول من انتقال للتنافس والتوافق فيما بينها من العالم المادي إلى العالم السيبراني، يحدث مثل ذلك أيضا للوحدات الاستراتيجية على مستوى المؤسسات والأفراد، خصوصا عندما يكون لهذه المؤسسات أو لهؤلاء الأفراد دائرة تأثير واسعة سواء على المستويين المحلي أو الدولي.
لا يمكن النظر إلى العالم السيبراني على أنه منفصل عن العالم المادي، بل يجب النظر إليه على أنه مكمل له، لأنه من صنع هذا العالم الذي ميز الله فيه الإنسان عن باقي مخلوقاته، ومكنه من الاكتشاف والإبداع والابتكار. وإذا كان العالم السيبراني يعاني اليوم انتقال مشكلات العالم المادي إليه، دون وجود الضوابط الكافية لحوكمته وإدارته بالشكل المأمول، فإن الجميع متفقون على الحاجة إليه، وعلى حماية أمنهم فيه. وجوهر هذه الحاجة هو الفوائد الجمة، بل المتزايدة، التي يقدمها هذا العالم، فهو يرفع كفاءة الأعمال في شتى المجالات، ويعزز نقاء البيئة، ويقدم فوائد أخرى كثيرة، ولنا أكثر من لقاء في مقالات مقبلة حول هذا الموضوع بإذن الله.

إنشرها