Author

السياسة النقدية وعدالة توزيع الدخل

|

تراجعت عدالة توزيع الدخل في كثير من الدول المتقدمة والصاعدة خلال العقدين الماضيين. وتزامن هذا التراجع مع الاستخدام المتزايد للسياسة النقدية في مواجهة الكوارث الاقتصادية. ومر العالم خلال الـ 13 عاما الماضية بأزمتين اقتصاديتين عنيفتين هددتا الاقتصاد العالمي بالكساد، ما أجبر دول العالم على الاستخدام المكثف للسياسات النقدية والمالية للحد من الآثار المدمرة للأزمتين. ونجح الاقتصاد العالمي في الخروج من الأزمة المالية العالمية في 2008، ويبدو أنه في طريقه للتغلب على الأزمة الحالية. استخدمت سياسات التوسع النقدي والمالي بسرعة وقوة بما في ذلك عمليات التيسير الكمي الضخمة التي لم يسبق لها مثيل. وتزامن التوسع النقدي والمالي مع تراجع عدالة توزيع الدخل والثروة في معظم دول العالم، ما أثار النقاش والقلق لدى المجتمعات.
يولي المسؤولون النقديون عادة القليل من الاهتمام لتأثيرات عدالة توزيع الدخل في صياغة السياسات. ويعود هذا للاعتقاد السائد بأن السياسة المالية هي المسؤولة عن التعامل مع قضايا عدالة الدخل وتخفيف آثارها السلبية. وتستخدم السياسات المالية الضرائب والتحويلات للتخفيف من سلبيات تراجع عدالة توزيع الدخل والثروة. وارتفع النقاش أخيرا عن دور السياسات النقدية في التأثير في عدالة توزيع الدخل والثروة، وكذلك تأثير عدالة توزيع الدخل والثروة في فعالية السياسات النقدية. ويرى عديد من المختصين أن عدالة توزيع الدخل تؤثر بدرجة ملموسة في فعالية السياسات النقدية، حيث يميل منخفضو الدخل والثروة عادة إلى زيادة مستويات الاستهلاك عند توافر الائتمان وتراجع تكاليفه. إضافة إلى ذلك، تيسر الأسواق المالية متطلبات التأهل للائتمان عند توافر السيولة، وكلما تضخمت السيولة في الأسواق سهلت الاستدانة وتراجعت تكاليف الديون. وتميل الشرائح السكانية الأقل ومتوسطة الدخل للإنفاق الاستهلاكي بدرجة أكبر، لهذا يذهب معظم ائتمانها للاستهلاك ويرفع الطلب على السلع والخدمات ما يحفز النمو الاقتصادي.
تقود التطورات التقنية في العادة إلى زيادة نصيب رأس المال من إجمالي الدخول ما يرفع حصص ملاك الأصول (الأغنياء) من الدخل، كما يرفع أجور العمالة عالية المهارة، بينما تتراجع حصص باقي السكان من الشرائح السكانية متوسطة ومنخفضة الدخل. وتقود هذه التطورات إلى تراجع عدالة توزيع الدخل في المجتمعات ما يجبر الحكومات على التدخل من خلال سياسات متنوعة للتخفيف من آثارها السلبية. ويرى النقديون أن سياسات التيسير النقدي توفر السيولة وتخفض تكاليف الإقراض، ما يشجع الاستثمار والاستهلاك ويحفز النمو الاقتصادي. ويولد النمو الاقتصادي الوظائف، ما يدعم دخول الشرائح السكانية منخفضة ومتوسطة الدخل، ويحسن من عدالة توزيع الدخل والثروة. لكن تطورات العقدين الماضيين، وخصوصا منذ الأزمة المالية العالمية في 2008، لا تدعم هذه الرؤية حيث تراجعت عدالة توزيع الدخل في الدول المتقدمة والصاعدة على حد سواء. وهناك مؤشرات على أن العمالة الماهرة تستفيد من التيسير النقدي أكثر من العمالة منخفضة المهارة. ويتوافر عديد من الدراسات حول علاقة الهزات النقدية بتوزيع الدخل، ولكن لا يوجد إجماع حول قوة الارتباط أو مقدار تأثيره.
لا شك أن هناك كثيرا من العوامل التي تتسبب في تراجع عدالة الدخل، وأهمها تغيرات السياسات المالية للدول في مجالات الضرائب والتحويلات والخدمات العامة. ويمكن استخدام السياسات المالية بدرجة أفضل في استهداف الشرائح السكانية الأقل دخلا، بينما تبدي السياسات النقدية قصورا واضحا في استهداف هذه الشرائح أو قد يكون تأثيرها محدودا. من جهة أخرى، يرى البعض أن التيسير النقدي قد يؤثر سلبا في عدالة توزيع الثروة، وبدرجة أقل، توزيع الدخل في عدد من الدول. ويخفض التيسير النقدي من تكاليف الإقراض، ما يصب أكثر في مصلحة الأغنياء والشرائح السكانية مرتفعة الدخل، لتمتعهم بجدارات ائتمانية أفضل وبنفوذ أقوى على المصارف والمؤسسات المالية. وهذا يمكّن ميسوري الحال من الاستثمار والمضاربة بدرجة أكبر من الفئات الأخرى. وسجلت الأعوام الأخيرة نموا قويا في نصيب الشرائح السكانية الأعلى دخلا، وخصوصا أغنى 1 في المائة من السكان. بل إن الأسواق المالية شهدت نموا غير مسبوق في ثروات أغنى أغنياء العالم على الرغم من الركود الاقتصادي.
قادت السياسات النقدية الفاشلة في عدد من الدول النامية أو الصاعدة، إلى نتائج كارثية على الشرائح السكانية منخفضة ومتوسطة الدخل. وشهد عديد من دول العالم خسارة نسب كبيرة من الفقراء ومتوسطي الحال ثرواتهم ومدخراتهم في فترات وجيزة بسبب السياسات النقدية التي قادت إلى انهيار العملات الوطنية. وأدى هذا بالطبع إلى تراجع مريع في عدالة توزيع الدخل، وتوليد توترات اجتماعية وسياسية تهدد كيان الدول. إن أهم دور يمكن أن تسهم فيه السياسات النقدية، خصوصا في الدول النامية، هو السيطرة على التضخم من خلال سياسات استهداف معدلات تضخم منخفضة، والحفاظ على معدلات صرف مستقرة مع الحرص على التوظيف الكامل للاقتصاد. وتقود معدلات التضخم المرتفعة إلى آثار سلبية قوية في عدالة توزيع الدخل والثروة. ويمكن للسياسات النقدية بعد ذلك السعي، قدر الإمكان، لتوفير السيولة للشرائح السكانية متوسطة ومنخفضة الدخل من خلال حض وتحفيز المصارف والمؤسسات المالية لتقديم الائتمان إلى هذه الشرائح، أو منح بعض الامتيازات والضمانات المحدودة مقابل التوسع في تقديم الائتمان إلى الشرائح السكانية الأقل حظا، كما ينبغي تعميق وتفعيل أنظمة الشفافية وسياسات الحد من الفساد واستغلال النفوذ في المصارف.

إنشرها