غربلة سوق العمل .. لمن الوظائف؟

تتبدل مقاييس سوق العمل في المطلق، وهذا التبدل المستمر لا ينحصر فقط في تبعات تفشي وباء كورونا المستجد، بل يعود إلى عقود خلت. وفي أعقاب انفجار الجائحة العالمية، أصيب العالم بأزمة اقتصادية كبيرة، ودخل في ركود هو الأعمق منذ 100 عام. وهذه الأزمة أوجدت معاييرها على ساحة سوق العمل، ولا سيما بعد أن اضطرت مؤسسات من كل الأحجام، إلى إعادة النظر في طبيعة العمالة لديها، فضلا عن بعض الأعمال التي خرجت من السوق نهائيا. فالمحاذير حول الاتصال المباشر بين البشر، أبعدت كثيرا من المهن عن هذه الساحة، أضف إلى ذلك، عدم جدوى تقديم بعض الخدمات مباشرة، بما في ذلك تراجع مخيف في وتيرة البيع من خلال المحال التجارية التقليدية المختلفة. تغيرت قواعد سوق العمل الآن وستتغير في المستقبل وفق كل المؤشرات والحاجة الوقتية وكيفية التلاؤم معها.
إلا أن هناك من يعتقد أن هذا الاستنتاج يرجع أساسا إلى الضغوط المادية والنفسية الحالية الناجمة عن تبعات كورونا، لكن في النهاية مع تطور السوق حول العالم، هناك متغيرات حتمية لا يمكن تجنبها، وهذا أمر طبيعي. فقبل عقد من الزمن كان لا بد للفرد أن يكون على اتصال شخصي مع مصرفه، بينما يقوم اليوم بكل معاملاته المصرفية عن بعد وهو جالس في مكتبه أو بيته، وهذا ما دفع المصارف حول العالم إلى تقليص وجودها المباشر في السوق، وقامت بضخ الأموال لتطوير قدراته الإلكترونية والفنية المتقدمة. وهذا ينطبق على عدد من القطاعات، مثل السفر والسياحة وتجارة التجزئة، حتى المعاملات الخاصة بالضرائب ودفع الفواتير، وكل ما يتصل بالخدمات المباشرة التي تقدم.
الأمثلة كثيرة على تغير قواعد اللعبة في سوق العمل، وعلى هذا الأساس لم يعد الأمر يرتبط فقط بقدرات الفرد للحصول على وظيفة، بل متصل بصورة أو بأخرى، بالمتغيرات المتواصلة في هذه السوق.
ورغم وجود بعض الخلافات في وجهات النظر بين فريق يرى أن المتغيرات كبيرة وواسعة وعميقة في سوق العمل، وبين أولئك الذين يعدون أن الأمر ليس أكثر من خدعة جلبتها معايير كورونا، إلا أنه يوجد اتفاق بين الطرفين، على أن هناك قطاعات تشهد بالفعل طلبا على الوظائف، ولا سيما تلك المتعلقة بصناعة التكنولوجيا والأعمال والرعاية الصحية، والمعاملات المالية الإلكترونية وغيرها من القطاعات.
فالطلب على العاملين في هذه المجالات سيرتفع بصورة كبيرة وفق الخبراء في العقدين المقبلين، وبالطبع الأمر يختلف من بلد إلى آخر، فسوق العمل في الولايات المتحدة ستختلف في مطالبها الوظيفية عن الأسواق المشابهة في دول مثل أفغانستان وبلغاريا وتشيلي وغيرها من الدول المتشابهة اقتصاديا من حيث طبيعة الاقتصاد وحجمه. ومتطلبات سوق العمل في العقدين المقبلين متشابهة بالطبع بين دول الاتحاد الأوروبي الرئيسة، لتقارب وضعها الاقتصادي والاجتماعي بشكل عام.
وهناك اتفاق كبير بين المختصين على أن الطلب كبير في مجال تقنية المعلومات وتطوير البرمجيات والإحصاء وتحليل البيانات، وهذا ما يعزز الاعتقاد بأن المستقبل سيشهد نقلة نوعية هائلة في هذا الميدان. فحتى الاقتصادات الناشئة بدأت ترفع مستوى الطلب في هذا القطاع، وسيتعزز الطلب في الأعوام المقبلة حتما.
وفي كل الأحوال، ستكون هناك وظائف صاعدة ومهن ستندثر لتضاف إلى مهن أخرى اندثرت بالفعل في العقدين الماضيين بصورة كبيرة، وستكون معايير العمل مختلفة تماما عما كانت عليه في أعقاب الحرب العالمية الثانية. فالتطور التكنولوجي الآن يسود الحراك الاقتصادي، وعزز سيادته في أعقاب انفجار جائحة كورونا. ونظريا وفعليا فإن قواعد سوق العمل والوظائف سترتبط مستقبلا بحركة تطور التقنية والتقدم الرقمي ما يحدث تغييرا كبيرا في خريطة السوق القديمة، وستكون التكنولوجيا سيد الموقف في هذا الجانب.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي