FINANCIAL TIMES

الاقتصاد الكلي .. جهود لسد الفجوة بين الواقع والنماذج السائدة

الاقتصاد الكلي .. جهود لسد الفجوة بين الواقع والنماذج السائدة

مارتن جوزمان يتحدث وإلى جوارة جوزيف ستجليتز.

قبل ثلاثة اعوام، نشر هذا العمود في فاينانشيال تايمز سلسلة من المقالات لمدة أسبوع حول "مشروع إعادة بناء نظرية الاقتصاد الكلي"، وهو جهد قاده أستاذ الاقتصاد في جامعة أكسفورد، ديفيد فاينز، للمساعدة على سد الفجوة بين نماذج الاقتصاد الكلي السائدة والواقع الاقتصادي الذي أخفقت في تفسيره، مثل الأزمة المالية العالمية. قلت في ذلك الحين إن ذلك المشروع هو "أعمق جهد من قبل كثير من كبار الممارسين في هذا المجال حتى الآن، لتفسير كيف خذلنا الاقتصاد في الأزمة".
منذ ذلك الحين، تسارعت تيارات تغيير أخرى في الاقتصاد. من حيث التفكير العملي، المشورة الخاصة بالسياسة الاقتصادية من أماكن مثل صندوق النقد الدولي تغيرت معالمها تماما عن "إجماع واشنطن" القديم بشأن النزعة المحافظة في المالية العامة والتنظيم الذاتي للسوق. فيما يتعلق بالتغيير الفكري، الانتقادات من خارج التيار الرئيس ازدادت قوة من حيث الجوهر والتماسك. على وجه الخصوص، أدت المبادرة التي قادها أنجوس أرمسترونج، من المعهد الوطني للبحوث الاقتصادية والاجتماعية، إلى تحسين مناهج نمذجة الاقتصاد الكلي التي تبدأ من افتراضات أساسية مختلفة حول كيفية عمل العالم. في مقابلة معي العام الماضي، يشرح أرمسترونج الطريقة والسبب الذي لأجله تخالف المبادرة ما يعد محترما من الناحية المنهجية في التيار الرئيس.
ما يثير الارتباك بدرجة لا بأس بها هو أن هذه المبادرة تسمى إعادة بناء الاقتصاد الكلي – لكن لا تخلط بينها وبين مشروع أكسفورد، الذي يظل الجهد الأساسي "من الداخل" لإصلاح التفكير الاقتصادي الكلي بجدية. إذا كان التيار السائد سيصلح نفسه بدلا من أن يتم اقتحامه من الخارج، فسيحدث ذلك من خلال شيء مثل مبادرة فاينز.
لكني كتبت قبل ثلاثة أعوام أن مشروع أكسفورد لم يذهب بعيدا بما يكفي لتحقيق ذلك. على وجه الخصوص، أشرت إلى أن قلة من المشاركين رأوا أن هناك حاجة إلى دمج توازنات متعددة لتكون سمة قياسية لأنموذجهم الأساسي – ما يسمح بوجود عدد من الحالات المختلفة ذاتية التعزيز التي يمكن للاقتصاد أن يقع فيها، وليس فقط توازنا فرديا يتقلب حوله. بدلا من ذلك، اكتفى معظم المساهمين بالمطالبة بافتراضات سلوكية أكثر واقعية ليتم إلصاقها بأنموذج التوازن الفردي الأساسي.
لذلك شعرت بالامتنان (جزئيا أيضا لأن فاينز هو التي كان أستاذي الأول لمادة الاقتصاد الكلي منذ نحو 25 عاما) حيث رأيت أنه في الجولة الثانية من المشروع، الذي نشر الآن كعدد مخصص من "مراجعة أكسفورد للسياسة الاقتصادية"، فاينز نفسه يذهب إلى أبعد مما كان عليه في المرحلة الأولى. مقالته الافتتاحية مع صموئيل ويلز صريحة في هذا الشأن:
"نعتقد أن الأنموذج الحالي في نظرية الاقتصاد الكلي، الذي يتماهى مع الأنموذج (القياسي)، هو في طريقه إلى الخروج. من وجهة نظرنا، فإن أنموذج التوازن المتعدد والمتنوع – أنموذج MEADE – هو على وشك الوصول. ونحن نريد تسريع رحلته. في المرة الماضية كنا أكثر تحفظا. قبلنا أنموذج النمذجة (المعياري)، وكنا متفائلين بشأن كيفية تطويره – وقدمنا قائمة بعوامل الاحتكاك التي تجب إضافتها إلى الأنموذج".
عندما اتصلت بفاينز لأستفسر عن سبب هذا التغيير في المسار، أشار إلى نظرية توماس كون للثورات العلمية. "عندما يكون لديك أنموذج في رأسك، يكون من الصعب جدا تغيير رأيك" – لكن في النهاية هناك عدد كبير فوق الحد من الطرق التي يتعارض فيها الأنموذج مع الواقع. (كما قال مارتن جوزمان وجوزيف ستجليتز في مساهمتهما في المشروع، فإن الجهود المبذولة لتعديل الأنموذج المعياري هي بمنزلة عدد كبير للغاية من المحاولات "لتعديل أفكار بطليموس الفلكية" لإصلاح إطار عمل يحتاج إلى ثورة كوبرنيكية).
ليس هناك شك في أن هذا سيكون تغييرا كبيرا جدا في كيفية عمل الاقتصاد الكلي. فاينز متفائل بشأن مثل هذا التغيير لسببين. فهو يشير إلى أن الاعتراف بالتوازنات المتعددة لا يجعل الأعمال العلمية الحالية عديمة الفائدة – "قطعة العدة تعمل"، ولا يزال بإمكان الأنموذج المعياري أن يفهم التقلبات حول التوازنات المختلفة. ثانيا، هو يشير إلى أننا اقتربنا من إحدى تلك النقاط التي عندها "قد تتم إعادة بناء النظام العالمي – سيكون نوع الماكرو الذي أصفه بأنه مهم من أجل ذلك الغرض".
هذا بالتأكيد صحيح. إلى جانب الآثار المترتبة على البحث الاقتصادي، يؤدي أخذ التوازنات المتعددة على محمل الجد إلى إحداث تغيير جوهري في كيفية تطبيق علم الاقتصاد على صنع السياسة الاقتصادية.
لنأخذ التوقعات – التوقعات التي تقدمها البنوك المركزية ووزارات المالية والمنظمات الدولية لدعم قراراتها المتعلقة بالسياسة والمشورة. كما يوضح "مخطط المعجبين" الأنموذجي، يتم تقديم هذه التوقعات كتوزيعات احتمالية حول "اتجاه مركزي". لا أحد يعتقد أنك ستصل إلى نقطة الإسقاط بالضبط، لكن الرسالة هي أنه من المرجح أن ينتهي بك الأمر بالقرب منها أكثر من كونك بعيدا عنها.
مع وجود توازنات متعددة، لا يوجد اتجاه مركزي واحد. بل على العكس، هناك عدد منها. وبينما يمكن للمرء أن يعطي توزيعات محتملة حول النتيجة الدقيقة في كل توازن، إلا أن التنبؤ بالتوازن الذي سيجد الاقتصاد نفسه فيه هو أمر مختلف تماما. قد يكون غير مؤكد بشكل جذري ولا يفهم بشكل صحيح على أنه مسألة احتمالات قابلة للقياس الكمي (النقطة الجيدة التي أثارها ميرفين كينج وجون كاي) – وقد يكون في الوقت نفسه الشيء الأكثر أهمية بكثير الذي تجب معرفته من أهمية دقة النتيجة المقدرة لأي توازن معين. كما أصر هذا العمود من قبل، فإن الطريقة الصحيحة لعمل التوقعات في مثل هذا العالم هي من خلال عرض السيناريوهات، والرسوم البيانية للمعجبين مع عدد من النتائج "المركزية"، ومناقشة العوامل التي يمكن أن تأخذ الاقتصاد نحو نوع أو آخر من التوازن. مثل هذا التغيير من شأنه أن يفعل العجائب بالنسبة إلى نقاش مستنير بشأن السياسة الاقتصادية.
بالنسبة للمشورة السياسية، فإن التركيز على التوازن المتعدد يغير وجه الأمور. الأنموذج المعياري، بما يتسم به من سلاسة وقدرة على التصحيح الذاتي، يدعو الاقتصاديين إلى رؤية دورهم على أنه يقوم على معرفة التغيرات الهامشية في السياسة الاقتصادية من أجل تحسين أوجه المقايضة، وتسريع الوتيرة التي يعود بها الاقتصاد إلى توازنه الطبيعي، وحتى إعطاء وكزة لهذا التوازن نفسه ليتجه نحو مكان أفضل قليلا. بمجرد أن نعترف بالتوازنات المتعددة، وأن الاقتصاد يمكن أن يقفز من حالة جيدة إلى حالة سيئة أو العكس، يصبح من الواضح أن سؤال السياسة الاقتصادية الأكثر أهمية هو اختيار التوازن: كيف نخرج الاقتصاد من حالة سيئة تعزز ذاتها بذاتها أو نمنع جوانب الاضطراب التي تعمل على قلبه وإخراجه من الحالة الجيدة؟
هذا شيء الاقتصاديون ليسوا مجهزين بشكل جيد لتقديم المشورة بشأنه. من الواضح أن هذا صحيح طالما أنهم مبرمجون على إنكار وجود توازنات متعددة. لكن حتى لو فعلوا ذلك، فإن أدواتهم الرياضية مصممة لمعرفة التوازن الموجود وما الذي يحافظ على الاقتصاد عند أو بالقرب من أي توازن وصل إليه. لديهم قدر أقل بكثير للمساهمة في مسألة أي من عدة توازنات محتملة تسود أو كيفية الانتقال من توازن إلى آخر. نرجو أن إعطاء نماذج التوازن المتعدد مكانة الصدارة يشجع أيضا على تحليل السياسات التي تعمل على تحويل التوازن. لكن من المحتمل أن يكون هناك عنصر غير قابل للاختزال في علم النفس السياسي.
إذا أدت هذه النظرة إلى العالم إلى تقليص دور الاقتصاديين، فإنها ترفع من دور السياسيين. عندما يمكن أن ينتهي المطاف بالاقتصاد أن يوجد في أماكن مختلفة لأن معتقدات الناس تحدد أفعالهم بطرق تعزز معتقداتهم الأولية، فإن القدرة على تغيير الخيال الجماعي للاقتصاد أمر بالغ الأهمية. كما أوضح روبرت شيلر الحائز على جائزة نوبل، الروايات السياسية تؤثر في النتائج الاقتصادية. هذه نقطة عملية بقدر ما هي فكرية. وضع توازنات متعددة في قلب النماذج الاقتصادية من شأنه أن يعني إعادة الدولة أيضا – فهناك دور مؤثر للدولة ولفن السياسة في ضمان نتائج اقتصادية جيدة.
يشير كل هذا إلى مدى الصعوبة التي قد يجدها التيار الرئيس للاقتصاد الكلي في إصلاح نفسه. علينا أن نتوقع قدرا كبيرا من المقاومة لمثل هذا التحول الذي ينادي به فاينز. أصلا قبل ثلاثة أعوام كان المساهمون في مقالات الجولة الثانية من مشروع فاينز يختلفون بشكل كبير في مقدار الإصلاح الذي كانوا يرون أنه ضروري. من الواضح أن بعضا من أكبر الأسماء في التيار السائد لم تسهم في المقالات هذه المرة. ذكر لي فاينز أنه "إلى أن يكون هناك أنموذج جديد، ستكون هناك فقط ساحة معركة بها الكثير من الجنود القتلى".
لكن بمرور الوقت، قد لا يكون هناك الكثير من الخيارات. كلما كان "المطلعون" أكثر مقاومة للتغيير، سيزيد صوت الغرباء – ويزيد الاستماع إليهم – مثل مشروع "إعادة البناء" الآخر الذي ذكرته. السبب في ذلك هو أن ممارسي السياسة الاقتصادية يواصلون سيرهم بالفعل. الذين يتعين عليهم اتخاذ القرارات سيمدون أيديهم من أجل الحصول على أفكار يمكنهم استخدامها، الحقائق الاقتصادية الجديدة تؤدي فعليا إلى تغيير جذري في العقيدة الاقتصادية العملية.
بشكل مشهور كتب جون ماينارد كينز أن صانعي السياسة العمليين هم غالبا "أسرى لاقتصادي بائد". في الواقع، فرانكلين روزفلت العملي للغاية وضع كثيرا من الأفكار "الكينزية" موضع التنفيذ قبل أن يصيغها كينز نفسه بالكامل. وبالمثل قد يكون صحيحا اليوم كما كان في ذلك الوقت أن يجد الاقتصاديون أنفسهم أسرى للممارسين – أو يرون أن تأثيرهم يصبح بائدا.

إنشرها

أضف تعليق

المزيد من FINANCIAL TIMES