لقاحات كورونا .. صراع جيوستراتيجي أم قوة ناعمة
يستمر فيروس كورونا في إسقاط الأقنعة، بكشف مزيد عن حقيقة العالم، وفضح صورة الوضع العالمي المثالي التي قيل إن العالم دخلها، بعد نهاية أطوار الحرب الباردة، وانهيار الاتحاد السوفياتي. كشف الفيروس، في وقت وجيز لم يتعد عاما، عن متغيرات كبرى، ظلت بعيدة عن دائرة الاهتمام، نتيجة اللهث الإعلامي وراء يوميات الجائحة.
ما إن خرجت دول العالم من "حرب الكمامة" حتى دخلت في حرب أخرى أشد وطأة هذه المرة، إنها "حرب اللقاح"، فكل دولة على حدة تسعى إلى حسم هذه الحرب مبكرا، بالعمل على تأمين كميات من اللقاح تغطي حاجياتها، متناسية أن إسقاط الحدود بين الدول كان أول رسائل كورونا إلى إنسانية القرن الـ21، نظير ذلك، استغلت دول أخرى الموقف لتعزيز مكانتها دوليا، من خلال انخراطها في "دبلوماسية اللقاح" المتداول، باعتباره فرعا من دبلوماسية الصحة العالمية.
راوحت اختيارات الدول بين "الحرب" و"الدبلوماسية"، بحسب موقعها في الجبهة العالمية لمواجهة كورونا. من شأن هذه الوضعية أن تتحول في المستقبل إلى معيار للتمييز بين الدول، لا بل صارت كذلك، فضمن الدول الخمس "العظمى" ذات حق النقض "الفيتو" في مجلس الأمن، فرنسا وحدها لم تستطع تطوير لقاح في مختبراتها، بعد توقف مشروع لقاح معهد باستور، نظرا إلى عدم فاعلية تجاربه بما فيه الكفاية، في الوقت الذي طورت فيه باقي الدول لقاحات خاصة، فالولايات المتحدة الأمريكية استطاعت تطوير لقاحين "فايزر وموديرنا"، الشيء نفسه بالنسبة إلى الصين "سينوفارم وسينوفاك"، فيما نجحت المملكة المتحدة في طرح واحد "أسترا زينيكا"، وطورت روسيا بدورها لقاح "سبوتنيك".
حرب اللقاحات
وقف العالم مجددا على لحظة سقوط مدوية لعدة دول غربية، حيث تراجع خطاب الإنسانية ووحدة المصير البشري، ليفسح المجال للجشع والأنانية والمصلحة الخاصة للدول، وأحيانا تحول إلى انتقام وتصفية للحسابات. أضحى التنافس سيد الموقف، ومع تعارض المصالح الوطنية والقومية مع المصالح الخارجية، فضلت الدول الكبرى تقديم مصالحها الداخلية التي ستمكنها من الحفاظ على هيبتها ومكانتها وسمعتها العالمية، وهذا لن يكون إلا بضمان الحصول على اللقاح، وبكميات تكفي لتغطية الحاجيات الداخلية، فهو إذن صراع للخروج من الأزمة.
استخدمت في هذا الصراع أساليب مشروعة، وأغلبها غير ذلك، فقد تخلى الاتحاد الأوروبي عن قيم "الإنسان التنويري"، وأنشودة التعاون الإنساني الدولي الذي تغنى بها مطولا، عندما فرض ترخيصا مسبقا على الشركات المنتجة للقاحات متى رغبت في تصديره إلى خارج دول الاتحاد، مع استثناء وحيد يتعلق بأيرلندا الشمالية التي كانت ضمن هذا المنع قبل التراجع عنه، في إطار خلافه المتصاعد مع بريطانيا. وقد برر نائب رئيس المفوضية الأوروبية قرار منع التصدير، بالرغبة في تأمين العدد الكافي من اللقاحات لمواطني دول الاتحاد الأوروبي.
يُذكر أن هدف الاتحاد الأوروبي الرئيس هو ضمان تحقيق خطته الرامية إلى تلقيح 70 في المائة من سكان دوله البالغين، بحلول أواخر الصيف المقبل، وهي أهداف تبدو أكثر صعوبة الآن، لذلك، أبرم الاتحاد ست اتفاقيات لتوفير أكثر من ملياري جرعة لقاح، غير أن الموافقات على الاستخدام لم تمنح سوى للقاحات الغربية "موديرنا، فايزر، وأسترا زينيكا"، في إشارة لها أكثر من دلالة في سياق الصراع الجيوستراتيجي بين الغرب وباقي القوى الكبرى، وعلى وجه التحديد الصين وروسيا.
اختارت دولة المجر، الملتحقة حديثا بالنادي الأوروبي "2004" الخروج عن هذا الإجماع، بعد موافقة الرئيس فيكتور أوربان اليميني القومي، على تطعيم المجريين، البالغ عددهم زهاء عشرة ملايين نسمة، باللقاحين الروسي والصيني، وذلك في محاولة منه لكشف تعثر الخطط الأوروبية الخاصة باللقاح، ما يثير مخاوف اتخاذ دول أخرى من الاتحاد مسارا مماثلا، خاصة بعد بروز النزعة الاستحواذية لدى بعض الدول، فالدنمارك مثلا طلبت لقاحات تكفي لأربعة أضعاف سكانها، حيث تتحدث الصحافة المحلية عن 41٫6 مليون جرعة من اللقاح لمواجهة الفيروس، فيما عدد سكانها أقل من ستة ملايين نسمة.
دبلوماسية اللقاحات
اهتدت دول عدة في سباق اللقاحات إلى استخدام إغراءات اللقاح، لتحقيق أغراض استراتيجية للدولة المصنعة للقاح، فدور هذه الأخيرة تعدى، في منظور هذه الدول، الجانب الطبي المتعلق بإنقاذ الأرواح، والدور الاقتصادي الخاص بعمل شركات صناعة الأدوية ومختبراتها، نحو استخدام اللقاح أداة جيوسياسية لبسط النفوذ وفرض الأجندات والمشاريع السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية والتقنية وغيرها.
تعد الصين المثال الأبرز للدول التي تبنت خيار دبلوماسية اللقاحات، ويعد ذلك بمنزلة استمرار للجهود التي تبذلها، منذ بداية تفشي الوباء، في محاولة لتصحيح صورتها، بعد أن تضررت كثيرا، نتيجة الانتقادات الغربية التي تحمل بكين مسؤولية انتشار الفيروس، لذا قبلت سريعا في تشرين الأول (أكتوبر) بالمشاركة، في مبادرة "كوفاكس" التابعة لمنظمة الصحة العالمية، في وقت ترددت فيه دول كبرى قبل الإعلان عن انخراطها.
تستغل الصين حملة التطعيم، للتخفيف من حدة الأزمة السياسية التي تسببت فيها الاتهامات بمسؤوليتها عن تفشي الوباء، كما أن التراجع المشهود للقوى الغربية أفسح لها المجال للقيام بدور قيادي في تقديم وتنسيق المساعدات الإنسانية، من أجل اكتساب الشرعية على الصعيد العالمي، ومواصلة السعي إلى تحقيق أهدافها الدبلوماسية والاقتصادية. هكذا تكون الصين فتحت الباب لعصر جديد من التعاون الدولي، بفضل اللقاحات الخاصة "سينوفارم وسينوفاك"، ولا سيما أنه لأول مرة، يتم تصدير لقاح طورته بكين إلى دول ثالثة للتلقيح الجماعي.
يظهر جليا أن الصين تتبع دبلوماسية اللقاح لترميم صورتها، وقد كشف وصف الرئيس الصيني اللقاح بأنه "منفعة عامة عالمية" ذلك بوضوح، فقد باشرت الصين توزيع اللقاحات في جميع أنحاء العالم، لدرجة أن وزارة الخارجية الصينية وقعت اتفاقات لتوفير لقاحات للفلبين وماليزيا، على الرغم من أنها على خلاف معهما، بشأن مناطق متنازع عليها في بحر الصين الجنوبي.
الهند بدورها دخلت على خط دبلوماسية اللقاحات، بعد نقلها أكثر من خمسة ملايين لقاح هندي الصنع، إلى دول الجوار المطلة على المحيط الهندي، تمتد من ميانمار وبنجلادش حتى موريشيوس وسيشيل، علاوة على توزيع ملايين اللقاحات المجانية في المقبل من الأسابيع. يبقى المثير في مبادرة نيودلهي تزامنها مع بدء عمليات التلقيح في الدولة، أي حتى قبل تلبية احتياجات الهند الخاصة.
وجدت الهند نفسها أمام فرصة لتسجيل نصر دبلوماسي عالمي، أمام البصمة الاستراتيجية المتنامية للصين في منطقة المحيط الهندي، ولا سيما أن الموضوع مرتبط بإحدى نقاط القوة في الهند، حيث توفر أزيد من 60 في المائة من اللقاحات العالمية ضد الأمراض المختلفة، والآن، تستفيد من هذا الثقل التصنيعي من خلال الشروع في توفير اللقاحات للدول الواقعة في جوارها، ثم لباقي دول العالم الثالث، ولا سيما أنها تتولى حاليا صناعة لقاحين، الأول بريطاني، والثاني باسم "كوفاكسين" من تطوير شركة "بهارات بيوتيك" الهندية، كما أن هناك ثلاث شركات هندية على وشك الإعلان عن لقاحات جديدة.
بين خيار الحرب ونهج الدبلوماسية في اللقاح، يكشف فيروس كورونا للعالم الفارق بين عقلية غربية استعمارية استعلائية، لا تؤمن إلا بالقوة سبيلا للهيمنة والسيطرة، وعقلية شرقية "الصين والهند" تعتمد أساليب أخف وقعا وأنفع أثرا لتحقيق المكاسب، وجني الأرباح بعيدا عن الصراع والصدام.