"المكتوبجي" .. طرائف الرقابة العثمانية على الصحافة العربية
يعود أول ظهور لصحيفة في أراضي الإمبراطورية العثمانية إلى أواخر القرن الـ18، مع جريدة النشرة الجديدة "بيتلين دو نوفيل" الناطقة باللغة الفرنسية، التي أدخلها السفير الفرنسي إلى إسطنبول عام 1795. بعد ثلاثة عقود، تولى ألكسندر بلاكو عام 1825 إصدار صحيفة تعني بالشؤون والأخبار العثمانية، واختار تسمية جمهور الشرق "إسبيكتاتير دو أورينت"، قبل أن يقوم بتغيير لتصبح رسالة إزمير "كورير دو سميرن".
انعكس ذلك على باقي ولايات الإمبراطورية العثمانية، فشهدت بلاد الشام في القرن الـ19 تأسيس عدة صحف، بداية بصحيفة "مرآة الأحوال" عام 1855، ثم صحيفة "حديقة الأخبار"، فجريدة "نفير سورية"، وفي القدس صدرت صحيفة "حبا سيليت".. حتى عام 1874، تولى صحافيون مسيحيون إصدار هذه المطبوعات، قبل أن يلتحق بهم عبدالقادر القباني كأول صحافي مسلم، يصدر عام 1875 صحيفة باسم "ثمرات الفنون".
زاد عدد المطبوعات الصحافية في بيروت، واتسعت دائرة تأثيرها، ولا سيما بعد تولي كُتاب من العيار الثقيل مسؤولية إدارة تحريرها، ما عزز الاهتمام بها والإقبال على قراءتها، وتداول أخبارها في ربوع بلاد الشام. لفت هذا الوضع انتباه الباب العالي، فما يُرَوج من أخبار وأفكار ومواقف في هذه المنشورات، من شأنه أن يمثل خطرا على مصالح الإمبراطورية العثمانية. لذا وجب فرض الرقابة عليها، لتبدأ منذ ذلك الحين، في الربع الثالث من القرن التاسع، معركة التقييد على حرية الصحافة، منهية بذلك حرية مطلقة كانت لدى جرائد بيروت، فلا مراقبة عليها ولا سيطرة، فهي ملجأ المظلوم، وخشية الظالم.
مسار طويل وحافل بالتضييق والرقابة على المطبوعات في بيروت، حاول الصحافي والكاتب سليم سركيس، صاحب جريدة "المشير" أن يشارك القراء فصولا من وقائعه، في كتاب جميل ولطيف، بعنوان "غرائب المكتوبجي"، صدر في طبعة حديثة عام 2021، عن مؤسسة هنداوي. وضع الكتاب الذي رفعه هدية إلى السلطان عبدالحميد الثاني، كما يكشف عن ذلك في المقدمة، بعدما هرب إلى مصر، "بعد أن قدر الله العلي الحكيم أن أخرج من مملكتك، وأن أقيم في حمى حكومة مصر العادلة، فمن هذا القطر الذي أصبح سعيدا من يوم تقلص ظل نفوذك عليه، أعرض لمسامعك الشاهانية ما أشكوه أنا، ويشكوه سائر رصفائي في تركيا من السياسة الخرقاء التي تبعتها جلالتك".
يذكر سليم سركيس أن تأليف الكتاب، كان بغرض بيان المصائب والنكبات من وجود المراقبة على الجرائد، لأن الحكومة العثمانية اختارت وضع مراقبة صارمة على الجرائد فقيدت العقول. وأرادت من ذلك أن تقتل الأفهام، كما تقتل الأجسام هذه الأيام. ليعلم القراء إلى أي حالة وصلت حرية الأقلام في بلاد الدولة العثمانية. وهو بدرجة ثانية، استجابة لطلب أدباء سألوه وضع مصنف في أخبار المكتوبجي، فهو على حد تعبيره "جهينة أخباره، لأنني احتملت مظالمه عدة سنوات، وعند جهينة الخبر اليقين".
عن "المكتوبجي" يقول سليم "إنه لا علاقة له بالرقابة على الصحف، لأن المقصود به هو "سكرتير الوالي"، ولكل ولاية من الممالك العثمانية مكتوبجي خاص بها، لكن الحكومة العثمانية اختارت أن تعهد إلى مكتوبجي ولاية دائرة بيروت بأمر مراقبة الجرائد والمطبوعات، حتى أضحى اسم الرجل لصيقا بمراقبة الجرائد أكثر من كونه كاتم أسرار الولاية.
تبدأ مهمة المكتوبجي، بعد تحرير وترتيب مواد الجريدة حتى تصير جاهزة للطبع والتوزيع، حيث تبعث إدارة الصحيفة بنسختين إليه، ثم تعلق عملية الطبع في انتظار رجوع المسودة المرسلة. عادة ما يتم الإرسال عند الساعة العاشرة صباحا، ما يفرض تعطيل الإدارة والمطبعة والعمال.. في انتظار رد المكتوبجي الذي يحتفظ بالنسخ ست ساعات وأكثر أحيانا، إذ تبقى بين يديه حتى صلاة العصر.
لكن المضحك في العملية أن مهمة قراءة المسودات تسند إلى شخص آخر، لأن منصب المكتوبجي يسند إلى شخص تركي "يعرف من اللغة العربية قدر ما أعرف أنا من لغة آدام"، بتعبير سليم سركيس. ثم بعد ذلك تعرض على أنظار المكتوبجي للاطلاع والتأشير عليها. هنا تحديدا تقع الطرائف والغرائب، فمسودات الجريدة تقدم إلى المكتوبجي مزينة بخطوط سوداء تفيد الحذف، وعلامات حمراء حول ما استشكل أمره على المكلف بالقراءة. يكتفي بالنظر إلى المسودة، ولما كان لا يعرف العربية فهو يرى الخطوط الحمراء تحت بعض العبارات، فلا يكلف نفسه استفسارا، بل يأخذ قلمه ويضرب على كل عبارة عليها إشارة حمراء، وهكذا فبعد أن يكون مراد قارئ المكتوبجي الاستفهام، تصبح تلك العلامة إشارة إلى حذف المقالة.
سرد الكاتب أكثر من 50 حادثة غرائب المكتوبجي، نختار منها: تحفظه على إعلان تجاري نشرته صحيفة محلية، يتضمن عرض بيع شقة سكنية، جاءت بصيغة "والبيت المراد بيعه ملك "بكسر اللام" محمد عبدالقادر، ويتكون من ثلاث حجرات..."، لورود اسم "ملك" في الإعلان، مؤكدا أن "لا ملوك سوى سلاطين بني عثمان الأتراك". وأمر بتغيير الإعلان ليصبح على شاكلة "البيت المراد بيعه الإمبراطور محمد عبدالقادر ويتكون من ثلاث حجرات...".
رفض المكتوبجي نشر الصحف إعلانات بصيغة "نعلن لحضرة الجمهور أننا..."، وفرض استبدال لفظة الجمهور في الإعلان ليصبح "نعلن لحضرة العموم"، لأن كلمة "جمهورية" تخدش الأذهان. كما أمر بحذف كلمة "حركة" التي وردت في مثل "الحركة فيها بركة"، في كتاب أمثال باللغتين العربية والفرنسية، وكانت الحجة أنها لفظة حركة تفيد معنى الثورة. يستمر المكتوبجي في سقطاته، حين استبدل لفظ "مدارس" بلفظ "مكتب" في مقالة عن الهند تتحدث عن مدينة هندية تدعى "مدارس"، فيما ظن الرجل أن المقصود هو مدرسة.
تبقى واقعة امتحان سليم لذكاء وفهم المكتوبجي أطرف الحوادث، فقد عمد المؤلف إلى كتابة كلام بدون معنى، كله خلط ومبالغة وتحريف. فحرر مقالة بعنوان "الأحوال الحاضرة"، في صدر الجريدة، سمح الرقيب بنشرها، من بين ما جاء فيها: "قد عم السلم الأرض قاطبة، وقام الملوك والوزراء يعلنون مقاصدهم السلمية، فذهب حشمتلو الإمبراطور كارنو الثالث قيصر روسيا إلى أمريكا، وألقى هناك خطبة لا تختلف في لهجتها السلمية عن الخطبة التي ألقاها المستر بسمارك رئيس وزارة إنجلترا في شيلي، قال فيها إنه تم عقد التحالف مع حضرة الإمبراطورة أوجيني ملكة فرنسا والأرشيدوق رودلف إمبراطور البرازيل، على ضم إمبراطورية سويسرا إلى جمهورية ألمانيا، والاتفاق على مد خط حديدي تحت بحر البلطيق يساعد على تسهيل التجارة بين إفريقيا والقوقاز، وهكذا فالعالم السياسي في راحة تامة....".
ختم المؤلف طرائفه المضحكة مع المكتوبجي بالنقد الجاد، حين أكد أن القصد من وراء نشر الكتاب هو بيان مساوئ الحكومة العثمانية، ليدرك كل إنسان درجة خمولها وظلمها، وبالتالي ليشترك الجميع في السعي وراء إكراهها على الإصلاح. لافتا النظر إلى أن كل هذه الرقابة والضغط لا تحمي الجرائد من التعطيل، فقد يرى الرقيب، بعد طبع الجريدة، عبارة لم يكن قد انتبه إليها قبلا، فيأمر بتعطيل الجريدة.