Author

تحسن التطلعات الاقتصادية

|
عاد التفاؤل حول مسيرة الاقتصاد العالمي بعد أن أثارت موجة جائحة كورونا الأخيرة في الدول المتقدمة المخاوف حول تطوراته ورفعت حالة عدم اليقين. وبعث البدء بحملات التطعيم الأمل في السيطرة على الجائحة وعودة الحياة إلى مسيرتها المعتادة على الرغم من المصاعب والتحديات الكبيرة في توزيع اللقاحات وتقديمها لعامة السكان. إضافة إلى ذلك، أضافت التطورات السياسية في الولايات المتحدة عنصرا إيجابيا لدى المؤسسات المتخصصة في الشؤون الاقتصادية العالمية، وعلى رأسها صندوق النقد الدولي، ودفعتها إلى رفع توقعاتها لنمو الاقتصاد العالمي.
استنادا إلى المتغيرات الإيجابية عدل صندوق النقد الدولي - في آخر تطلعاته للاقتصاد العالمي الصادرة في كانون الثاني (يناير) 2021 - معدلات النمو الاقتصادي للعامين الماضي والحالي. وجرى في هذه التعديلات خفض معدل التراجع الاقتصادي العالمي لـ 2020 إلى 3.5 في المائة بعدما كان الصندوق يتوقع في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي انخفاضه بنسبة 4.4 في المائة، بتحسن مقداره 0.9 في المائة. أما معدل نمو الاقتصاد العالمي خلال العام الحالي، فقد رفع الصندوق آفاقه بثلاثة أعشار نقطة مئوية إلى 5.5 في المائة. وجاء تحسن الأداء الاقتصادي العالمي، العام الماضي، لتحقيق الدول الكبرى في النصف الثاني من 2020 معدلات نمو فوق التوقعات السابقة. أما رفع توقعات نمو هذا العام، فنتج عن بدء حملات إعطاء اللقاحات، والتحسن المرجو في العلاقات التجارية الدولية، وتراجع نبرة الحروب الاقتصادية التي سادت خلال حقبة الرئاسة الأمريكية السابقة، وكذلك للزيادة المتوقعة لوتيرة التحفيز المالي الأمريكي وعدد من الدول. وسيأتي الارتفاع القوي نسبيا في معدلات النمو الاقتصادي أيضا في 2021 بسبب العودة التدريجية للاقتصادات إلى مسارها الطبيعي بعد الانكماش القوي العام الماضي.
زاد انتشار جائحة كورونا حالة عدم اليقين حول التوقعات الاقتصادية بسبب صعوبة قياس وتوقع آثار موجات انتشار الجائحة في الدول، ويظهر هذا جليا من حجم التعديلات الأخيرة للتطلعات الاقتصادية. وكان من الممكن أن تقل معدلات النمو عن المتوقع مع مرور الزمن، لكن لحسن الحظ تميل التوقعات الحالية إلى زيادة معدلات النمو عن التطلعات السابقة. وهذا طبعا لا يمنع من أن تتراجع معدلات النمو عن مستوى التوقعات خلال العامين الحالي والمقبل. وتأتي المخاطر من وجود معوقات لوجستيكية حقيقية تحول دول نشر اللقاح وإتاحته للجميع عبر الدول، وكذلك من تدني عدالة توزيعه بين دول العالم. ويتطلب التصدي الأمثل للجائحة عدالة أكبر في توزيع اللقاحات بين دول العالم وتعاونا وتنسيقا دوليا متعدد الأطراف لمنع انتشاره في دول معينة وحدوث موجات عدوى بين دول العالم. كما تأتي المخاطر أيضا من الانسحاب المبكر من برامج التحفيز لبعض الدول، وخصوصا الكبرى منها، ما سيؤثر سلبا في نمو الطلب العالمي، وكذلك من ارتفاع المخاطر التي تواجه عديدا من الدول في التعامل غير الموفق وأخطاء السياسات الاقتصادية. وتلوح في الأفق أيضا مخاطر متصلة بالديون، وخصوصا لدى الدول النامية، التي تملك خيارات محدودة في تمويل العجز المالي مقارنة بالدول المتقدمة. أما في الجانب الإيجابي، فقد تتسارع معدلات التطعيم بمعدلات تفوق التوقعات، كما قد تطور علاجات وتوفر الأدوية بشكل أوسع وأفضل، ما سيحسن مسار التعافي وينعكس إيجابا على معدلات النمو.
تحسنت اقتصادات كثير من الدول في الربع الثالث من 2020 بنسب تفوق التوقعات، وكانت الولايات المتحدة واليابان والهند وأعضاء الاتحاد الأوروبي أبرز هذه الدول. وجاءت نتائج بعض الدول، كالصين والمكسيك، متسقة مع التوقعات السابقة للربع الثالث من 2020، وما زالت نتائج العام الماضي بكامله تقديرية. ومن المتوقع أن تضعف وتيرة النمو الاقتصادي في الربع الأول من 2021 بسبب الموجة الأخيرة من الجائحة، أما بعد ذلك فسيزداد النمو الاقتصادي زخما في الربع الثاني ويواصل تحسنه فيما تبقى من العام الحالي على افتراض توافر اللقاحات بشكل واسع الصيف المقبل.
يفسر تحسن مسيرة الاقتصاد العالمي خلال النصف الثاني من 2020 إلى حد كبير، استقرار أسعار النفط في الآونة الأخيرة. ومن المتوقع أن تتحسن أسعار المواد الأولية خلال العام الحالي، وأن ترتفع أسعار النفط بنحو 20 في المائة عن معدلاتها في 2020، وهو تحسن جيد لكنه سيبقيها تحت مستويات 2019، ونتيجة لذلك ستستمر الضغوط على إيرادات وصادرات الدول المصدرة النفطية. ومع هذا يتوقع الصندوق أن ينمو اقتصاد المملكة بنسبة 2.6 في المائة خلال العام الحالي، ويرتفع إلى 4 في المائة العام المقبل. من جهة أخرى، ستتفاقم معضلة الفقر المدقع عالميا، كما ستستمر مستويات السياحة تحت أحجامها التاريخية، ما سيصعب من الأوضاع الاقتصادية في القطاعات السياحية والدول عالية الاعتماد على السياحة.
توقعات الصندوق والمؤسسات الدولية والبحثية مبنية على بيانات تاريخية وخبرات طويلة في الاقتصادات العالمية وتطوراتها، لكنها في النهاية توقعات بشرية ومبنية على افتراضات معينة ومنطقية تصيب وتخطئ. وتحاول التطلعات المتخصصة كالتي يقوم بها الصندوق، إعطاء صناع القرارات والجمهور بوجه عام تصورات محايدة وعلمية عن الأوضاع والتطورات المستقبلية الاقتصادية الكلية العالمية والإقليمية والوطنية، وتوفير بيانات تقريبية لمساعدتهم على اتخاذ القرارات وصنع السياسات. وتجري مراجعة التوقعات بشكل دوري للاستفادة من أحدث البيانات وتقديم أفضل التصورات الممكنة.
إنشرها