مع عبدالله مناع في مذكراته

مع عبدالله مناع في مذكراته
محمد السيف.

أهدى الأديب والصحافي العريق الدكتور عبدالله مناع إلى المكتبة كتابا جميلا، ضم بين دفتيه شيئا من مسيرته في عوالم الصحافة والكتابة والطب والحب، ولم تخل الرحلة من "صراع"، خاصة في أروقة ودهاليز الصحافة! استمتعت وأنا أقرأ كتاب "بعض الأيام، بعض الليالي"، الذي لم يخل من الصراحة في بعض مواضعه، الذي أتمنى منه أن يحفز بقية زملاء مناع من عريقي الصحافة ومشاكسيها كي يكتبوا مذكراتهم ويرووا تجاربهم، كما جاءت وكانت! أفرد الأديب مناع فصلا من فصول كتابه ليتحدث عن مقاهي وكازينوهات مدينة جدة في الخمسينيات، وقد عدها عدا، وحدد مواقعها بذاكرة تصويرية عجيبة، وعرض مراحل تطورها. وكنت أتمنى لو أبرز دورها وأثرها الاجتماعي والثقافي، وذكر أبرز روادها من الأدباء والمثقفين والمسؤولين. الشيء المثير في الكتاب هو قصة مناع مع الصحافة، التي ابتدأت في وقت مبكر، حينما نشر في جريدة "البلاد" أول مقالة له "لا حياة مع اليأس"، وكان وقتها طالبا في الصف الأول الثانوي، لينفتح الباب الذي لم ينغلق بعد! وحينما يعود مناع بذاكرته إلى تلك الأيام يتساءل عن السبب الذي دفعه إلى الكتابة في ذلك الوقت المبكر من حياته؟ غير أنه لا يملك جوابا حاسما سوى القول "إن ثمة بواعث نفسية وعمرية طاغية كانت تريد أن تعبر عن نفسها وربما عن غضبها! وعن أحلامها الغامضة"! تتواصل رحلة التعبير عن الذات وعن الأحلام على شواطئ الإسكندرية، التي علمنا - من خلال الكتاب - أن مناع مغرم بها ومفتون، ولا لوم عليه ولا تثريب، فقد عاش فيها أيام شبابه الغامر وأحلامه الطموح، وفي مسارحها حضر حفلات "كوكب الشرق" ورآها واقعا بعد أن كانت حلما عبر الأثير في أعوام جدة! كما عاش فيها الرفاهية، في المأكل والملبس وبقية المُتع، ما جعله يتصالح مؤقتا في نظرته إلى الأثرياء! وفي الإسكندرية عاش مناع الحب وسكن فؤاده. وجميل منه أن عرض قصة حبه الأولى، حينما عشق فتاة إسكندرانية، وكان مفترضا أن يتوج هذا الحب بزواج يحتضنه، غير أن الأحداث السياسية آنذاك حالت دون أن يجتمع القلبان! وقد علمنا وعرفنا حجم الآثار والتداعيات والهزائم السياسية والاقتصادية والثقافية، التي ألقت بثقلها على المنطقة جراء سياسة الرئيس عبدالناصر! غير أننا لم نكن نتوقع أن تصل تلك التداعيات السلبية إلى مناخات الحب وأجواء الرومانسية وقلوب العاشقين على الشاطئ المسحور في الإسكندرية، غير أن قصة حب مناع أثبتت ذلك! في كلية طب الأسنان في الإسكندرية واصل مناع كتاباته مع مجلة "الرائد"، بل أصدر كتابه الأول "لمسات"، الذي قدم له الأديب الكبير محمد حسن عواد، وهو ما زال طالبا في أعوامه الأولى، وألحقه برواية سماها "على قمم الشقاء". وطالب طب بهذا العشق للصحافة والكتابة لا بد أن يعود صحافيا أولا وطبيبا ثانيا! وهذا ما كان. فلقد عرف مناع واشتُهر، أديبا وكاتبا وصحافيا مشاكسا أكثر منه طبيب أسنان، ولا أظن أنه خلال مسيرته في الطب قد تلقى إنذارا أو توجيها من رئيسه، فضلا عن إيقافه، لكنه في الصحافة، خاصة في مجلة "اقرأ" قد أُوقف من رئاسة التحرير مرتين، عرض لظروفهما في كتابه. مما استوقفني في الكتاب وأردت مناقشته وطرحه، ما ذكره مناع من أنه حينما عاد من الإسكندرية عام 1962 قابل الدكتور حسن نصيف في جدة، الذي طلب منه سرعة التوجه إلى الرياض لإنهاء إجراءات تعيينه، وقد ذكر مناع أن حسن نصيف كان حينذاك وكيلا لوزارة الصحة، وأن رشاد فرعون كان الوزير، ويوسف الحميدان المدير العام! في ظني أن ما أورده مناع غير دقيق! فنصيف لم يعمل وكيلا لوزارة الصحة، بل كان مديرا عاما لها، قبل أن "يتوزر" عام 1960 وقد ترك منصبه في آذار (مارس) 1962، بيد أن عبدالله مناع قد عاد في أواخر 1962، أي بعد أن غادر نصيف وزارته، ناهيك عن رشاد فرعون، الذي تركها عام 1960. والأكيد أن وزير الصحة حينما عاد مناع إلى وطنه كان الدكتور حامد هرساني. ويبدو أن مناع قابل نصيف بعد أن ترك الوزارة في جدة واحتفى به ونصحه بالذهاب إلى الرياض لإنهاء إجراءات تعيينه، فاختلط الأمر على ذاكرة مناع، التي احتفظت بكثير من تفاصيل حارة البحر والمقاهي والحب وعراك الصحافة، لكنها خانت صاحبها في أمور الطب! ولربما أن لقصة الحب أثرا، فقد كان قلبه ينبض بها حينما كان يراجع وزارة الصحة!
مقال يحوي لمحات مهمة عن حياة الراحل للكاتب محمد السيف نشر في "الاقتصادية" بتاريخ السبت 6 ديسمبر 2008 ويعاد نشره اليوم تزامنا مع وفاة الأديب المانع.

الأكثر قراءة