العلا .. طموح القيادة لرفعة الإنسان وحفظ التاريخ والمكان
العلا .. طموح القيادة لرفعة الإنسان وحفظ التاريخ والمكان
حظيت المعالم الأثرية والتاريخية، التي تزخر بها المملكة، باهتمام خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز والأمير محمد بن سلمان، ولي العهد نائب رئيس مجلس الوزراء وزير الدفاع، بوصفها امتدادا لحضارات إنسانية ضربت جذروها في عمق التاريخ البشري وجزءا لا يتجزأ من حفظ تاريخ المملكة وتراثها العريق، الذي أكدت عليه رؤية المملكة 2030، ولا تزال شواهد آثاره باقية حتى الآن في مواقع مختلفة في المملكة، ومنها: محافظة العلا.
واجتمع في محافظة العلا عديد من الظروف والعوامل التي جعلتها من أهم الأماكن الأثرية في العالم، عطفا على تاريخها العميق وموقعها الجغرافي المتميز على طريق البخور، الذي منحها على مر العصور القدرة على احتضان حضارات بشرية قديمة وطبيعة خصبة على ضفاف وادي "العلا"، الذي اشتهر بتنوع منتجاته الزراعية وسط نسمات هواء الوادي العليل، الذي يبهج النفس التواقة للراحة خاصة في ليل العلا الهادئ، الذي كلما زادت عتمته أمست السماء مطرزة بنجومه المتلألئة.
وعملت الهيئة الملكية لمحافظة العلا، التي أنشئت بأمر ملكي عام 2017، على تحقيق حلم تطوير العلا دون المساس بمعالمها التاريخية مع التأكيد على تنمية الإنسان، ورأس مجلس إدارتها الأمير محمد بن سلمان، الذي سابق الزمن وأطلق "رؤية العلا" في العاشر من شباط (فبراير) عام 2019 متضمنة خطتها الحفاظ على التراث الطبيعي والثقافي في العلا، بالتعاون مع المجتمع المحلي وفريق من الخبراء العالميين.
وتعد "العلا" وجهة فريدة من نوعها للمستكشفين من جميع أنحاء العالم، وكنزا لدارسي الآثار والجغرافيا والجيولوجيا والمجتمعات البشرية، "إذ تمثل تاريخا حقيقيا للتبادل الثقافي والتجاري بين الحضارات المختلفة" حسبما قال الأمير بدر بن عبدالله بن فرحان، محافظ الهيئة الملكية لمحافظة العلا، في كلمته إبان إطلاق رؤية العلا، وقد بدأ فريق من علماء الآثار في تشرين الأول (أكتوبر) 2020م بعمليات تنقيب واسعة في مملكة "دادان" لاستكشاف مزيد من المعلومات عن هذا التاريخ البشري الكبير.
ووضعت الهيئة الملكية لمحافظة العلا مسارات متنوعة لتطوير مراكز الزوار في المواقع الرئيسة الأربعة في العلا: الحجر، وجبل عكمة، ودادان، والبلدة القديمة، من أجل تجهيزها لاستقبال الزوار من أنحاء العالم، وذلك ضمن إطار "رؤية العلا" الرامية إلى إحداث تحولات مسؤولة ومؤثرة في المحافظة من خلال العمل المتوازن بين حفظ وصون التراث الطبيعي والثقافي الغني والمشاريع الطموحة للمملكة لتهيئة العلا للترحيب بالزوار من جميع أنحاء العالم.
ومحافظة العلا كما تحتضن التاريخ، تزدان كذلك بالمناظر الخلابة للطبيعة الصحراوية والجبلية والواحات الخضراء المتنوعة والمنازل القديمة التي سكنها أناس ملهمون في المواقع الخاصة بالممالك: الدادانية، واللحيانية، والنبطية خلال الألفية الأولى قبل الميلاد، وقال البروفيسور عبدالله نصيف، أستاذ الآثار في جامعة الملك سعود عضو مجلس الشورى سابقا: إن العلا (وادي القرى قديما) ذكرت في قصائد شاعر العصر الأموي جميل بن معمر، الذي نشأ في العلا ووصف أهلها وديارها.
وأدى الاستقرار البشري إلى تحقيق الازدهار الاقتصادي في العلا على مر العصور التي مضت، فأنشئت شبكة كبيرة من القنوات المائية تحت الأرض أسهمت في قيام نهضة زراعية واسعة في العلا حولتها إلى أرض خضراء على مساحات شاسعة، وفقا لما أوضح البروفيسور عبدالله نصيف، مبينا أن العلا اشتهرت في قديم الزمان إلى جانب زراعة النخيل بزراعة: التين، والأعناب، والرمان، والحبوب بأنواعها، والحمضيات بأنواعها، وزيت شجر البان.
وساعدت العوامل الطبيعية المثالية لموقع "الحجر" على جعله موطنا للاستقرار البشري، كما أفاد لـ"واس" الدكتور بدر بن عادل الفقير، أستاذ الجغرافيا في جامعة الملك سعود، وقال: إن الحجر توافرت فيه مياه جوفية وسطحية غزيرة وعذبة، وتربة في سهل واسع، غذتها شبكة الأودية المنحدرة من حرة عويرض البركانية، وهو محاط بمنظومة من الفنون الصخرية الطبيعية والتراث الآثاري والتربة الزراعية الصالحة لأصناف عدة من المنتجات الزراعية.
ويوجد في العلا أكثر من مليوني نخلة يتجاوز إنتاجها 90 ألف طن من التمور سنويا، أشهرها: "البرني" الذي يتميز بإمكانية العثور على ثلاثة أنواع منه في النخلة نفسها مثل: المبروم، والمشروك، والعادي، و"الحلوة" المعروفة بلونيها الأسود والأحمر، كما يوجد ما يربو على 200 ألف شجرة حمضيات في المحافظة 70 في المائة منها أشجار برتقال، ويعد الليمون والأترج من الحمضيات الأكثر عراقة في العلا، كذلك يوجد أكثر من 100 ألف شجرة بريغرينا "البان العربي" الذي يطلق عليه محليا "اليسر".
وتحتضن العلا "محمية شرعان الطبيعية" التي تسهم في حماية المناطق ذات القيمة البيئية الاستثنائية، وتعمل على استعادة التوازن الطبيعي في المنطقة بين الكائنات الحية والبيئة الصحراوية، والحفاظ على النباتات الطبيعية والحيوانات ذات القيمة العالمية البارزة من أجل إعادة توطينها وإكثارها، وأطلق سمو ولي العهد في المحمية عددا من : الوعول، وطيور النعام أحمر الرقبة، والغزلان، وأعلنت الهيئة الملكية للعلا عن إنشاء الصندوق العالمي لحماية النمر العربي الذي يعد أكبر صندوق في العالم لحماية هذا النوع من القطط الكبيرة المهددة بالانقراض الذي يستوطن جبال العلا.
وضمن إطار الخطط التطويرية للهيئة الملكية لمحافظة العلا، جرى إشراك المجتمع المحلي في العلا ودعم مشاريعها من خلال برنامج "حماية" الذي اتاح الفرصة لأكثر من ألفي شاب وفتاة من أبناء العلا للعمل على إعادة إحياء وتأهيل وادي العلا، ووادي عشار، وإزالة التشوهات التي تعرضت لها بعض المواقع التاريخية والتفاعل ضمن مشاريع التشجير وزيادة مساحة الغطاء النباتي في العلا.
وتماشيا مع دعم الكوادر الوطنية، أطلقت الهيئة مرحلتين من برنامج الابتعاث الدولي الذي يوفر لأبناء وبنات العلا فرصة الدراسة في: أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وأستراليا في مجالات مختلفة تتعلق بخطط التنمية الخاصة بالعلا لمراحل الدبلوم، والبكالوريوس، والماجستير، وأسس البرنامج على أربع مراحل، ويدرس ضمن البرنامج حاليا أكثر من 400 طالب وطالبة، وكان باكورة الخريجين ثلاثة من أبناء وبنات العلا (شابان وفتاة) حصلوا على درجة الماجستير في السياحة خلال الأيام القليلة الماضية.
وأصبحت العلا مكانا جاذبا للفعاليات العالمية، فقد نظمت الهيئة الملكية لمحافظة العلا في مطلع العام الماضي مؤتمر الحجر الأول للحائزين جائزة نوبل 2020، حضره أكثر من 20 فائزا بجائزة نوبل للسلام، إضافة إلى ما يزيد على 100 شخصية من قادة الفكر والمجتمع والسياسة والعلماء البارزين من جميع أنحاء العالم، كما تستضيف سنويا موسم (شتاء طنطورة) الذي يسلط الضوء على الفنون والثقافة والتاريخ والتراث في محافظة العلا.
وبدأ شباب وفتيات العلا المشاركة في هذه الفعاليات من خلال تخصصات عدة، تسهم في دعم مسيرة التنمية في العلا، فضمن مبادرات التطوير الشخصي والمهني، بدأ عدد من الطلبة المتخرجين من برنامج فنون الطهي وإدارة الضيافة "فيراندي" في باريس مسيرتهم المهنية في عدد من الشركات المشغلة للمنتجعات في العلا من مجموع 24 طاهيا وطاهية ضمن المرحلة الأولى من البرنامج شاركوا في البرنامج التدريبي المصمم على مستوى عالمي لتعليم فنون الطهي في إطار الشراكة بين الهيئة الملكية لمحافظة العلا ومدرسة فيراندي الحائزة نجمة ميشلان.