Author

التطور التقني يولد الوظائف

|
قادت التطورات التقنية المتسارعة والمتلاحقة إلى زيادة توجس كثير من العاملين حول مصير وظائفهم. وتتنامى مع مرور الوقت فرص أتمتة كثير من مهام الأعمال والوظائف. وتشير بعض التقديرات إلى أن ربع الوظائف في الولايات المتحدة قد تفقد - بشكل كامل مستقبلا - نتيجة لاستبدال البشر بالآلات والروبوتات. ولا يقتصر الأمر على ذلك، فقد تقوم الآلات والروبوتات ببعض مهام الوظائف المتبقية، ما يعني مزيدا من التراجع في عدد الوظائف. ومن المعروف ارتفاع إمكانات حلول الآلة محل الإنسان في أداء المهام المتكررة والمملة أو المنهكة جسديا، لكن التطورات المتلاحقة في مجال الذكاء الاصطناعي وتطبيق الأتمتة والروبوتات لكثير من المهام الذهنية التي يقوم بها البشر تهدد بالاستغناء عن جزء كبير من عمالة هذه المهارات. في الجانب المضيء تولد التطورات التقنية وظائف أخرى، كما أن تفاعل المجتمعات والحكومات مع التقنية وعبقرية البشر تفتح مجالات جديدة للعمل وتوجد مزيدا من الوظائف. إضافة إلى ذلك، فإن التقنية ليست العامل الوحيد المؤثر في التوظيف، فهناك عوامل أخرى تسهم في إيجاد الوظائف وتدميرها. وتقود السياسات والتغيرات البيئية والاجتماعية والسكانية والثقافية وحاجة البشر، إلى ولادة وظائف جديدة وفقدان أخرى.
عندما يقوم المشغلون بإدخال تغيرات تقنية في كياناتهم كعمليات الأتمتة أو الميكنة والروبوتات تحل الآلة مكان بعض العمالة في أداء المهام والوظائف، ما يرفع إنتاجية العمالة القائمة ويتسبب في تراجع عدد وظائف القطاعات المتأثرة خلال الأمد القصير. في المقابل، تتولد وظائف جديدة في صناعة وبرمجة الآلات وتشغيلها وصيانتها والأعمال المساندة لها. ومع مرور الوقت يقود تحسن الإنتاجية إما لزيادة الإنتاج أو تحسين المنتج أو خفض التكاليف، ما يرفع الدخل ويدعم الطلب الكلي مولدا أرباحا ووظائف إضافية في الاقتصاد. لا يتزامن حدوث هذه التأثيرات في وقت واحد، حيث تفقد الوظائف في القطاعات والمؤسسات المغيرة للتقنية أولا، ثم تسرع أو تبطئ السياسات وتصرفات وردود الأعمال والعمالة توليد الوظائف في القطاعات الأخرى. على العموم تقود التغيرات التقنية إلى تأثيرات متعددة في الإنتاج والجودة والأجور والقطاعات الاقتصادية، حيث قد تتراجع أو تختفي قطاعات معينة بينما تولد وتنمو قطاعات اقتصادية أخرى.
قادت القفزات السريعة والكبيرة في مجالات المعلومات والحاسب الآلي، إلى هبوط هائل في تكاليف الحوسبة وخزن المعلومات. إضافة إلى ذلك، أضاف تطور الاتصالات وانتشار الإنترنت قدرات جبارة للتواصل وانتشار وخزن المعلومات والبيانات واستعمالاتها. وخفضت القفزات الهائلة في مجالات الحوسبة والمعلومات والاتصالات كثيرا من تكاليف استخدام التقنيات الرقمية ويسرت سرعة نشرها وتوسعها. ونتجت عن التطورات المتلاحقة في التقنيات الرقمية تغيرات كبيرة في هياكل الصناعات العالمية، كما أسهمت في تحقيق نمو متسارع لبراءات الاختراع وولادة طيف كبير من الخدمات والمنتجات. ويلاحظ في الأعوام الأخيرة انخفاض تكاليف إنشاء شركات التقنية وزيادة أعدادها ونموها بشكل سريع، كما تضخم عديد منها إلى أحجام غير مسبوقة. وباتت شركات التقنية، كجوجل وأمازون وأبل، تحتل المراكز الأولى كأكبر الشركات، بينما تراجعت الشركات الصناعية إلى مراتب أقل.
قادت التغيرات التقنية السابقة خلال القرنين الماضيين، إلى تغيرات كبيرة في القطاعات الاقتصادية ومساهمتها في الاقتصادات العالمية. وكان القطاع الزراعي أبرز القطاعات الاقتصادية قبل الثورة الصناعية الأولى، حيث تركزت فيه معظم الأيادي العاملة والناتج المحلي. أدت التطورات التقنية في الثورة الصناعية إلى هجرة كبيرة من الريف إلى المدن، بعد زيادة الطلب على العمالة منخفضة المهارة في قطاعات الصناعة والبناء والتعدين. بعد ذلك قاد انتشار التعليم العالي والاستخدام المتزايد للآلات في قطاعات الصناعة والتعدين والبناء، إلى تراجع الإسهام في الاقتصادات العالمية وانتقال العمالة مجددا للقطاعات الخدمية بشكل أكثر. فهل ستقود التغيرات التقنية المتلاحقة في الأعوام المقبلة إلى تبدلات أخرى في نوعية القطاعات الاقتصادية أم ستعجز الآلة عن الحلول بديلا عن البشر في قطاعات الخدمات؟ وهل ستؤدي هذه التغيرات إلى رفع معدلات البطالة أو خفض الأجور؟ من المؤكد أن دور الآلة سيزداد في تأدية كثير من مهام وأعمال الخدمات التي يقوم بها الإنسان. وتقوم التقنية حاليا بكثير من مهام الخدمات المصرفية والإدارية والحكومية مثلا، ما خفض الحاجة إلى العمالة في بعضها. أما على الجانب الإيجابي، فإن من شبه المؤكد وجود حاجة كبيرة إلى البشر لأداء كثير، إن لم يكن معظم الخدمات والصناعات، كما أن المرجح ولادة خدمات وصناعات جديدة مع التطورات التقنية. وهناك تفاؤل يبديه كثيرون بأن التطورات التقنية ستقود إلى رفع رفاهية البشر وزيادة إنتاجيتهم، كما حصل سابقا خلال القرنين الماضيين، وكما يحصل في التجارب التنموية لكثير من الدول الصاعدة. وسيرفع الاستخدام المتزايد للروبوتات والأتمتة إنتاجية العمالة، ما سيحسن الدخول والمنتجات أو يخفض أسعارها. ويأمل المتفائلون أن تقود التغيرات التقنية في النهاية إلى نمو قطاعات اقتصادية جديدة، وولادة وظائف إضافية للعاطلين عن العمل، كما حدث في التطورات التقنية السابقة.
إنشرها