الفوضى مجددا في تايلاند

ظن كثيرون أن الأمور قد استتبت في تايلاند على ضوء الهدوء الذي ساد الشارع خلال العام الماضي، غير أنه كان الهدوء الذي يسبق العاصفة كما يقال، بدليل تفجر موجة جديدة من المظاهرات والاحتجاجات أخيرا من تلك التي تذكر المتابعين بما حدث في أواخر عهد الملك السابق بهوميبون أدونياديت الذي رحل في أكتوبر 2016 تاركا خلفه بلادا منقسمة على نفسها سياسيا من بعد أعوام طويلة كانت فيها نموذجا للملكية المستقرة المحققة للنمو والازدهار الاقتصادي. ما يلفت النظر في الاحتجاجات الجديدة أن المحتجين، ومعظمهم كالعادة من الشباب وطلبة الجامعات، يحاولون استنساخ طرق وأساليب زملائهم المحتجين في هونج كونج لجهة مقارعة حكومة الجنرال برايوت تشان أوتشا رئيس الوزراء/ قائد الجيش السابق الذي يصفونه بالعقل المدبر لانقلاب عام 2014، والمزور لانتخابات عام 2019.
والملاحظة الثانية اللافتة للنظر أن المحتجين توسعوا في مطالبهم. إذ لم تعد هذه المطالب مقتصرة على رحيل الحكومة وإجراء انتخابات ديمقراطية جديدة تعتمد الشفافية لمجلسي النواب والشيوخ كما في المظاهرات السابقة، وإنما أضيفت إليها مطالب أخرى مثل إعادة كتابة الدستور حيث يتضمن بنودا تحد من سلطة الملك وتقلص ثروته. والمعروف أن التعرض للملك ومساءلته كان من المحرمات في ظل الملك السابق، بل كان يعاقب عليه المتهم بعقوبات تصل إلى السجن المؤبد.
لكن يبدو أن ذلك بات شيئا من الماضي، وكان يحترم في عهد الملك الراحل صاحب الهيبة والمكانة المقدسة في نفوس أغلب الشعب. أما في ظل عهد ابنه الملك الحالي ماها فاجيرالونجكورن (68 عاما) الذي يقال: إنه لا يحظى بشعبية والده، فقد سمحت المستجدات للتايلانديين بأن يتنمروا ضد الملكية التي لا تتدخل دستوريا في السياسة، ويدعوا علانية وبجرأة غير مسبوقة إلى شفافية أكبر في الشؤون المالية للملك وإلغاء القوانين الخاصة بالمساس في الذات الملكية. وآية ذلك حركة الشارع الاحتجاجية التي لم تكتف هذه المرة بصب غضبها على رئيس الحكومة ومحاصرته في مقره، وتحدي قانون الطوارئ الذي لا يسمح بالتجمعات لأكثر من أربعة أشخاص، وإنما تجاوزت كل ذلك إلى القيام بمحاصرة موكب للملك ومواجهته برفع ثلاثة أصابع ترمز إلى مطالبتهم بالديمقراطية، في عمل غير مسبوق في تاريخ تايلاند المعاصر.
وإزاء هذه التطورات لم يكن أمام رئيس الحكومة، الذي بدا ضعيفا مرتبكا، على خلاف أسلافه من قادة البلاد العسكريين، سوى اتخاذ جملة من الإجراءات بدعوى حماية الملكية ومنع دخول البلاد في حالة من الفوضى، تزيد من إرهاق اقتصادها المرهق حاليا بسبب تداعيات جائحة كورونا الصينية. وقد اشتملت هذه الإجراءات على مواجهة المحتجين وتفريقهم سواء في العاصمة بانكوك أو في أقاليم البلاد البعيدة مثل بوكيت في الجنوب وشيانج ماي في الشمال الغربي، وتشديد الرقابة على وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات الإعلامية التي يستخدمها المحتجون في تنظيم حركتهم وتغطيتها إعلاميا، وإغلاق نظام النقل الجماعي وشبكة السكك الحديدية منعا لوصول المتظاهرين إلى مواقع الاحتجاج المعلنة، ومنح ضباط الجيش والشرطة سلطات إضافية لضبط الأمور بموجب قانون الطوارئ.
وقد توجت الحكومة إجراءاتها هذه بالدعوة إلى عقد جلسة استثنائية للبرلمان، الذي يقضي أعضاؤه عطلة، بهدف النظر في تخفيف التوتر وكيفية مواجهة عمليات الكر والفر من تلك التي تدرب عليها المحتجون بإتقان في مظاهراتهم السابقة ضد الديكتاتورية العسكرية عام 2010.
بقي أن نشير في هذا السياق إلى أن منظمات حقوق الإنسان الغربية، مثل منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش التي اعتادت دس أنفها في الشؤون الداخلية للدول بحجة تحقيق العدالة وإنفاذ القانون، اتخذت فيما خص أحداث تايلاند سالفة الذكر موقفا منحازا ضد الحكومة، واصفة كعادتها المتظاهرين بالمحتجين السلميين، وضاربة بعرض الحائط حقيقة أن مواجهة السلطات الحكومية لهم هي من صميم واجباتها لمنع الفوضى وترسيخ الأمن وحماية الممتلكات العامة والخاصة وتسهيل ممارسة الناس لحياتهم اليومية بشكل طبيعي.
تحتج هذه المنظمات، التي فقدت كثيرا من مصداقيتها، على استخدام الحكومة التايلاندية خراطيم المياه والأصباغ لتفريق المحتجين والإعلاميين الأجانب المتطفلين، وتعد هذا العمل عملا استفزازيا ومبالغا فيه وغير مبرر، رغم أن إجراءات سلطات بانكوك لم توقع حتى الآن قتيلا أو جريحا، ولم تبلغ مستوى تصديها لاحتجاجات الطلبة عام 1973 حينما استخدمت الحكومة العسكرية آنذاك الدبابات والمروحيات والأسلحة الآلية لقمعهم فسقط أكثر من 270 قتيلا وأصيب أكثر من 2500 شخص.
وهذا الاحتجاج من المنظمات الحقوقية ليس غريبا - بطبيعة الحال - لأنه تكرر مرارا في حالات فوضوية مشابهة في دول أخرى، ولا سيما الدول العربية أثناء أحداث ما أطلق عليه "الربيع العربي"، وتبين الآن من خلال الكشف أخيرا عن إيميلات هيلاري كيلنتون أنها كانت من تدبير وتنظيم وتآمر جهات أجنبية حاقدة ضد الأنظمة العربية الشرعية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي