اقتصاد أوروبا .. هزة عنيفة 

 
لقد أثر انتشار فيروس كورونا في المؤشرات الاقتصادية كافة ودون استثناء على مستوى العالم، وكلها تأثيرات سلبية وتسجل خسائر شبيهة بالأزمات العالمية التي ضربت اقتصادات العالم في الأعوام الماضية. وما زالت تداعيات هذه الجائحة مستمرة مع عودة نشاط الفيروس في موجته الثانية ولجوء عدد من دول أوروبا إلى سياسات الحجر الصحي العام وحظر التجول وإغلاق الأنشطة الاقتصادية. إن هذه السياسات القاسية والاحترازية لمواجهة تفشي الفيروس، بكل تأكيد تؤثر مباشرة وبكل قوة في حركة الأنشطة الاقتصادية وحركة الناس وبالتالي السلوك الاستهلاكي ما يضعف مستويات الطلب الكلي وبالتالي فإن مؤشرات اقتصادية مثل الناتج المحلي ستكون سلبية وتتراجع أرقامها الاعتيادية ويتوقف تقدمها.

كما أن النمو الاقتصادي الذي يقاس بالتغير الإيجابي في الناتج المحلي، سيتأثر بشكل صارخ وواضح، بل أصبح النمو سلبيا ما يعطي مؤشرات بالانكماش الاقتصادي وهو ما يشير إلى أن الاقتصاد يتآكل من الداخل وعظامه تتعرض للتهالك والضعف والوهن، مع تقادم الأصول وضعف حركة العمال وإنتاجيتهم. وبالفعل إن هذه البيانات تعد ذات أثر سلبي في اتجاهات الاستثمار وحركة أسواق المال، وخلال الأسبوع الماضي كانت كل هذه المعطيات تسير في مسار لم يكن مؤملا منذ عاد التفاؤل الذي عم العالم مع اقتراب التوصل إلى لقاح وتراجع حالات الإصابات والعودة إلى الحياة الطبيعية في معظم الاقتصادات العالمية، وفي دول مثل إيطاليا وإسبانيا وفرنسا على وجه الخصوص حتى أيضا بريطانيا التي لها وضعها الاقتصادي الخاص.

من المؤسف له اليوم أن الآثار الاقتصادية للجائحة لم تكن لتقف عند الانكماش الاقتصادي، بل تعدت ذلك إلى مستويات الدين الحكومي، فالحكومات في العالم أجمع تواجه تحديات هائلة بشأن تمويل مصروفاتها مع طول أشهر الجائحة، فالانكماش الاقتصادي وتراجع مستويات الإنتاج المحلي في الدول أثرا بشكل كبير في الإيرادات الضريبية من جانب كما ضربا الرسوم الجمركية ولامسا حتى التأشيرات المختلفة نظرا لتراجع حركة السفر والسياحة حول العالم، وفي الوقت نفسه فإن الفكر الاقتصادي المقبول اليوم بشكل عام يؤكد ضرورة بقاء الدعم الحكومي للفئات الأكثر تضررا، وأيضا ضمانات العودة السريعة للنمو وإنتاجية القطاع الخاص عند انحسار الوباء.

كما شاركت حكومات الاتحاد الأوروبي في تقديم المساعدة المالية إلى بعض الدول وهذا في مجمله يتطلب مزيدا من الإنفاق ما استدعى مزيدا من الاقتراض الحكومي من خلال الأدوات المختلفة وأسهم في زيادة الدين العام بشكل قوي خاصة بالنسبة إلى دول الاتحاد التي تعاني نقصا في إيراداتها العامة، في اتحاد يضم نحو 28 دولة ما أكبر الفارق في عدم تساوي مؤشراتها الاقتصادية.

إن هذه الصورة الاقتصادية المركبة من تراجع أرقام الإنتاج المحلي، وتزايد حجم الدين العام، تضيف إلى الاقتصاد العالمي مؤشرات أكثر قتامة وغموضا ومستقبلا حرجا بالعودة إلى الوضع الطبيعي، ومنها نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي التي وصلت إلى 95.1 في المائة، في منطقة اليورو، مقابل 86.3 في المائة، في نهاية الربع الأول من 2020.

وإذا كان تغيير صغير جدا في البسط أو المقام في أي معدل كفيلا بتغيير النسبة فإن تغييرهما معا يشكل هزة عنيفة في المؤشر، وهذا ما يشهده الاقتصاد العالمي والاقتصاد الأوروبي بشكل خاص وهو تحد جديد يضاف إلى التحديات الضخمة التي شهدها اقتصاد منطقة اليورو منذ الأزمة المالية العالمية عام 2008 ثم مشكلة ديون اليونان التي شهدت أزمة ديون قبل الجائحة وما زالت تعاني هذا الوضع الاقتصادي المحرج الذي أثر في مناحي الحياة كافة، وأيضا والأزمات التي واجهت إيطاليا وإسبانيا، وأخيرا خروج بريطانيا مما عرف باتفاقية بريكست، والآن تأتي مشكلة الزيادات الكبيرة في نسبة الدين العام إلى إجمالي الناتج المحلي.

فقد سجلت أعلى نسب الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي في نهاية الربع الثاني من 2020 في اليونان "187.4 في المائة"، ثم في إيطاليا "149.4 في المائة"، والبرتغال "126.1 في المائة"، وبلغت نسبة الدين في بلجيكا "115.3 في المائة" فرنسا "114.1 في المائة" قبرص "113.2 في المائة"، وإسبانيا "110.1 في المائة"، فيما بلغت أدنى مستوى لها في إستونيا "18.5 في المائة"، بلغاريا "21.3 في المائة"، ولوكسمبورج "23.8 في المائة". إنها أرقام حقيقية مخيفة في ظل التراجع الاقتصادي العنيف ما يجعل دول أوروبا كافة في خطر مستمر.

إن هذا التباين في مستويات نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي التي ترجع أساسا إلى مستويات انتشار الفيروس في الدول المذكورة، سيقدم دروسا لعقود مقبلة من حيث إن الصحة العامة وقدرات الدول على تجنب جائحة بمثل مستوى كورونا ستكونان مؤشرا اقتصاديا لا يقل أهمية عن مؤشرات مثل النمو والدخل الحكومي، وسيكون هذا المعيار أحد أهم معايير التصنيف الائتماني في المستقبل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي