لجنة المراجعة في الإدارة العامة بين انحياز وتحيز

مع التطور الكبير لقواعد الحوكمة في القطاع العام جنبا إلى جنب التحول إلى نماذج الإدارة العامة الجديدة، فإنه من الأهمية بمكان فهم كيف سيتم التحول من نموذج وأفكار ماكس فيبر إلى نماذج قواعد الحوكمة الجديدة ذات الطابع العولمي، فالفرق بين النموذجين ليس ببساطة وضع مجلس إدارة وتشكيل لجانه، بل هو أساسا عقائد وأفكار ذات فهم ونظرة مختلفة للواقع، فالمناهج السائدة للإدارة العامة في معظم القرن الـ20 قامت على أساس تحديد المهام وبناء النهج المركزي في عملية اتخاذ القرار والمساءلة.
ولذلك، فإن تنظيم الجهة الحكومية، سواء كانت هيئة عامة أو جامعة أو مؤسسة، يرتكز على استخدام هيكل تنظيمي صارم لا تتداخل فيه السلطات ولا المستويات الإدارية.
وهذا المنهج عموما، مبني على أساس اللوائح التنظيمية التي تفسر طرق وأساليب تخصيص الموارد وآليات استخدامها، فليس هناك على الحقيقة هوامش واسعة للتخطيط الاستراتيجي المبني على مرونة المؤسسة الحكومية في تحديد أهدافها، تلك الأهداف التي يجب أن تكون منسجمة تماما مع مفاهيم مثل نظرية المنظمة ونظرية الوكالة، التي شكلت الحالة الراهنة للقطاع الخاص في العالم. ولهذا أيضا، فإنك تجد في نظام كل هيئة او مؤسسة عامة، مهام محددة وفقا لمفاهيم ماكس فيبر في الإدارة، وليس وفقا لمفاهيم الحوكمة الحديثة، وتجد "في الهيئات والجهات التي لم تفهم هذه الصورة جيدا" تلك الخطة الاستراتيجية التي دفع الملايين في إنشائها، ومع ذلك فهي مبنية على أساس نظرية المنظمة الحديثة والوكالة، وتصاغ بمثل مؤشرات رضا العميل ونموذج بطاقة الأداء المتوازن، وتجد الخطة في يد الرئيس التنفيذي ومستشاريه كل يوم، بينما تجد في أيدي الموظفين نظام المؤسسة، الذي يوضح مهامها، وتلك اللوائح والتعليمات التي وضعتها وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية ووزارة المالية. ثم ألا تسأل بعدها عن التقارير داخل المؤسسة، التي لن يرفعها أحد ولا عن المساءلة والمسؤولية كنتيجة.
التحول لحوكمة القطاع العام يجب أن تكون ترجمة حقيقية للتحول في مفهوم الإدارة العامة، فلا يصح أن تفكر في إطار الإدارة العامة التقليدية وتريد في الوقت نفسه أن تطبق نماذج الحوكمة المبنية على مفاهيم حقوق أصحاب المصلحة، ويمثلهم المجلس واللجان، فالهيئات اليوم والمؤسسات العامة تعاني صداعا يوميا مؤلما بين عبارات مثل "معالي الرئيس"، وبين لجان للمجلس ليس من بينهم "معالي". وبعبارة أكثر وضوحا، فإن الصداع يحدث نتيجة تحيز هذه اللجان لفكرة "صاحب المعالي" والتصورات الناتجة عنها، وبين انحيازهم لقواعد حوكمة المجالس. وفي الأغلب، يحدث صراع داخلي خطير يخل بأهم مفاهيم الحوكمة العميقة، وهو الاستقلال الذهني. ففي هذه الحالة قد يحدث تحيز ذهني لتغليب رأي الرئيس التنفيذي، ذلك أن مستوى الخطاب والبروتوكولات التي يفرضها منصب "معالي"، توثر حتما في طريقة التفكير والعمل. فمن يجرؤ أن يقول لمعاليه إن طريقة العمل فيها خلل، والتقارير فيها خطأ أو غير مقبولة، أو أنها تخالف النظام، طالما لم يلبس أحدهم ثوب أصحاب المصلحة ولم يكن منهم. إن لجان المراجعة، التي تم تشكيلها ممن ليسوا أصحاب مصلحة حقيقيين، ستستند قوتها إلى شخصية الرئيس التنفيذي وقبوله لمثل هذا النقاش الحاد، وليس إلى التسلسل الذي تفرضه قواعد الحوكمة. هنا في مثل هذا الكيان الإداري، سترى الحوكمة ورقا ورديا، بينما الواقع إدارة تقليدية من القرن الـ20.
في ممارسات أكثر تطرفا للجان يتم تشكيلها من أعضاء مجلس إدارة في هيئة لا يحمل الرئيس التنفيذي فيها منصب المعالي، قد تجد لجنة المراجعة، وهي تريد أن تمارس أعمالا تتجاوز الدور المحدد لها في قواعد الحوكمة، فبسبب وجود شخصيات من ذوي المناصب والمراكز في هذه اللجان، وأيضا لهم باع في العمل التنفيذي وليس الرقابي، وأيضا ليسوا من أصحاب المصلحة "كما تفسرها قواعد الحوكمة"، فإنهم يطالبون بدور تنفيذي واسع، ويمارسون التأثير في القرار التنفيذي بطريقة متحيزة لأفكار وتجارب مسبقة لديهم. ولكي يحقق أعضاء هذه اللجان هدفهم، يستخدمون نفوذهم في مجلس الإدارة لتصميم ووضع لوائح لأعمال اللجان، هدفها تطبيق مفاهيم الإدارة العامة التقليدية، لكن من خلال هذه اللجان، فهم لم يزالوا متحيزين ذهنيا لتلك النماذج ولا يستطيعون تصور العلاقات الجديدة في العمل وفقا لقواعد حوكمة القطاع العام الحديثة. وهنا قد يظهر التناقض الشديد بين نظام الهيئة أو المؤسسة والهيكل التنظيمي المبني على قواعد الحوكمة والإدارة العامة الجديدة، بينما ترى في الواقع والتطبيق نماذج الإدارة العامة التقليدية وسلوكها.
الحوكمة مبينة على أهداف يضعها أصحاب المصلحة وليست على المهام، بمعنى أن النظام الذي تم من خلاله إنشاء الهيئة أو المؤسسة العامة، يجب أن يصف بدقة الأهداف التي عليها تحقيقها وليست المهام التي عليها القيام بها، ثم يحدد بوضوح المجالس المرتبطة ببعضها بعضا، واللجان التي يحق لمجلس الإدارة إنشاؤها، وأيضا مهام كل لجنة، ذلك أن الحوكمة تحمي أهدافا ولا تحمي المهام، الحوكمة ترسم خطوطا دفاعية ضد تحيز القرار نحو أهداف غير ما تم تخصيصه نظاما. فلا بد من تحديد كل تلك العلاقات نظاما، ولا بد أن تكون لجان المراجعة خصوصا، من أصحاب المصلحة الحقيقيين والمباشرين، فهم وحدهم قادرون على التحيز للأهداف. التطبيقات الحقيقية للإدارة العامة الجديدة تتطلب منا تطبيق الحوكمة نصا وروحا.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي