Author

ماذا استجد بين موسكو وبكين؟

|
لعل من أكثر الأمور التي تحظى اليوم بمتابعة دقيقة من المراقبين والمحللين التقارب المتسارع بين الصين وروسيا الاتحادية اللتين كانتا على خلاف أيديولوجي مستحكم زمن الحرب الباردة، وكان زعماؤهما يتقاذفون الشتائم والاتهامات علانية وبأقذع ما في قاموس الهجاء من ألفاظ نابية. غير أن الدولتين تواجهان اليوم خطرا مشتركا يتمثل في الولايات المتحدة وسياساتها الهادفة إلى تحجيمهما ومحاصرتهما عبر بنائها تحالفات في الشرق تستهدف الأولى، وتحالفات في الغرب تستهدف الثانية، وبالتالي فمن الطبيعي أن يتقاربا وينسقا ويتعاونا لدرء ذلك الخطر ومواجهته.
ومما لا شك فيه أن تفكك الاتحاد السوفياتي الذي بدأت تباشيره في شرق أوروبا أواخر الثمانينيات، وعدته واشنطن انتصارا كونيا لها، قرع جرس الإنذار في بكين آنذاك وأيقظ زعماءها الحمر من سباتهم وأخافهم من احتمالات امتداد الشرر إلى تخومهم، فأقدموا في وضح النهار على جريمة ساحة تيانج إن مين عام 1989 كي تكون درسا وعبرة لمن تسول له نفسه أن يحلم مجرد حلم بتكرار ما حدث في الاتحاد السوفياتي. وكي يتفادوا التفكك والانهيار على الطريقة السوفياتية تخلوا عن كثير من الشعارات الأيديولوجية الطنانة، واعتمدوا خططا اقتصادية أكثر انفتاحا، الأمر الذي حقق للصين نهضتها الاقتصادية والصناعية والتجارية الحالية التي انعكست إيجابا على حياة الملايين من المواطنين.
أما روسيا الاتحادية فقد عانت لأعوام طويلة، بعد ميلادها كخليفة للاتحاد السوفياتي، تخبطا اقتصاديا وفقرا وإفلاسا وحرمانا وهواجس وصراعات عرقية وجرائم منظمة إلى أن استتبت الأمور على يد فلاديمير بوتين، الرئيس القادم من جهاز المخابرات السوفياتية ومن تجربة أعوام طويلة عاصر فيها معظم قادة بلده وصولا إلى جورباتشوف صاحب البيروستروكا التي وصفها ذات مرة بأنها كانت جيدة لعلاج مشروع سوفياتي منحرف لولا إفلات الأمور من قبضة الحزب الحاكم وتسارع الأحداث في أوروبا الشرقية.
في هذا السياق كتب الدبلوماسي الهندي السابق ك. بدادراكومار قائلا: إن الدولتين مختلفتان في رؤيتهما لأسباب سقوط الاتحاد السوفياتي رغم الجذور المشتركة لحداثة الدولتين. فعلى حين يعزي أهل الدار الأسباب إلى الفساد السياسي والعصيان العسكري واهتزاز الثقة في القيم التي روجها الحزب الحاكم وفشل السياسات الاشتراكية في تلبية تطلعات الجماهير، نجد الزعيم الصيني الحالي شي جي بينج يعزيها إلى عوامل مثل عدم وجود رجل شجاع قادر على المقاومة، والإنكار الكامل لتاريخ لينين وستالين، والجري وراء العدمية التاريخية، والارتباك الفكري، وضعف دور المنظمات الحزبية المحلية، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انهيار الأمة الاشتراكية السوفياتية العظيمة بحسب تعبيره.
ويبدو أننا اليوم نقترب من حرب باردة جديدة، لئن كان أحد طرفيها هو الولايات المتحدة كما كان الحال في الحرب الباردة القديمة، فإن طرفها الجديد ليس الصين وحدها كما يعتقد البعض وإنما هو تحالف آخذ في التشكل بين المتضررين الكبيرين من نفوذ وهيمنة الولايات المتحدة، وهما الصين وروسيا الاتحادية. إذ لم يعد خافيا أن واشنطن تحاول بناء تحالف قوي في الغرب قوامه دول شرق ووسط أوروبا، خصوصا تلك التي تشتد فيها النزعة القومية أو تتوجس من عودة الهيمنة السوفياتية مثل بولندا وهنجاريا ودول البلطيق الثلاث مضافا إليها ألمانيا التائهة. أما في الشرق فتحاول واشنطن بناء تحالف قوي من الهند واليابان وأستراليا وتايوان وفيتنام، بعد أن أبدت حليفاتها التاريخيات من دول جنوب شرق آسيا مخاوف من عدم قدرتها على مواجهة التنين الصيني ونفوذه المتعاظم جيوسياسيا واقتصاديا وعسكريا.
أما الأدوات التي يستخدمها النسر الأمريكي في الغرب والشرق لاحتواء التنين الصيني والدب الروسي معا بهدف إفشال مخططاتهما فتشمل فرض عقوبات وضغوط على الشخصيات الطبيعية والاعتبارية المتعاملة مع الصين وروسيا "على سبيل المثال تعرضت الشركات الأوروبية التي تعمل في مشروع خط أنابيب الغاز الروسي "نورد ستريم 2" بتكلفة 11 مليار دولار للتهديد بعقوبات أمريكية كما تعرضت للعقوبات فعلا بعض الشخصيات الصينية التي لعبت دورا في قمع مسلمي الإيجور في إقليم تركستان الشرقية الصيني وقمع حركة الاحتجاجات في جزيرة هونج كونج، وعرقلة مشروع الحزام والطريق الصيني، والعودة للوجود بصورة أقوى في إفريقيا التي تعد اليوم مخزونا صينيا للمواد الخام، فضلا عن انتهاج واشنطن مبدأ العصا والجزرة حيال بعض الدول العالمثالية المترددة من تلك التي تحظى بموقع استراتيجي على طريق الإمدادات النفطية وممرات التجارة الدولية مثل سريلانكا التي نجحت الصين في استمالتها إلى صفها عن طريق الإغراءات المادية.
ففي الحالة السريلانكية تحاول واشنطن بدعم هندي الضغط على حكومتها لإنهاء مشاريع الحزام والطريق التي تقوم بها الصين في هذا البلد، ومن جانب آخر تسعى واشنطن وبدعم هندي أيضا إلى جعل المالديف قاعدة عسكرية للولايات المتحدة متممة للقاعدة الأمريكية الموجودة في دييجو جارسيا التي تراقب من كثب تحركات البحرية الصينية في المحيط الهندي. هذا فضلا عن قرار واشنطن أخيرا العودة إلى إفريقيا، من بعد تجربتها القاسية في الصومال، وذلك من خلال توطيد علاقاتها مع الدول الإفريقية، ولا سيما تلك التي تنتهج الديمقراطية والحكم الرشيد مثل إثيوبيا وكينيا والسودان، والمساهمة في فض النزاعات المسلحة "السودان وجنوب السودان مثالا"، ومساعدة الدول التي تواجه الإرهاب والقرصنة وتحديات المرحلة الانتقالية والجريمة العابرة للحدود.
إنشرها