التعليم وسوق العمل .. المراجعة الواجبة

منذ عقود، وعلاقة التعليم بسوق العمل تطرح للنقاش في المنتديات واللقاءات العلمية وغير العلمية، وفي الصحافة. كل يطرح اقتراحاته، سواء كانت صائبة، أو خلاف ذلك، بل إن البعض يتجرأ باقتراح إقفال هذا القسم، أو ذاك، ليس بناء على باع طويل في التعليم، ولا بيانات من الميدان، ولا بحوث ودراسات متعمقة أوصلته إلى هذا الاستنتاج، إنما مرد الاقتراح خبرة شخصية لا أكثر ولا أقل، فقد يكون له قريب تخرج في قسم، ولم يوفق في الحصول على وظيفة في مجاله، وربما يعود السبب إما لاكتفاء السوق من هذا التخصص في المدينة التي يقطن فيها، وإما أن مستواه المعرفي والمهاري لا يؤهله إلى الوظيفة لوجود منافسين آخرين أفضل منه.
التعليم وسوق العمل، علاقتهما شائكة، لدرجة أنه لا يمكن تركها للآراء المجردة من حقائق الواقع، كما أن المشكلة ليست محدودة في بلد دون آخر، لاعتبارات فردية ومجتمعية، واعتبارات حركة سوق العمل، من حيث العرض والطلب. ومن خبرتنا في الجامعة، يوجد تخصصات يكون الإقبال عليها شديد، وتشهد منافسات حادة للالتحاق بها، نظرا إلى توفر الوظائف في سوق العمل، ويستمر هذا الوضع أعواما ثم لا يلبث إلا وينقلب الأمر عكس ذلك، فيقل الإقبال على التخصص، وينصرف الطلاب عنه عدا قلة ممن يعشقون التخصص، أو يجدون فيه خدمة فردية، أو عائلية. ومن الأقسام التي يمكن ضرب المثل بها، قسم التربية الخاصة في كلية التربية في جامعة الملك سعود، حيث كان الطلاب عند التقديم على الجامعة يضعون في قمة اختياراتهم كلية الطب، يليها كلية التربية - قسم التربية الخاصة، وعندما تشبعت السوق بالخريجين، تراجع القبول حتى تم إيقاف القبول فيه. ومن الأسباب الواضحة لذلك، تسارع الجامعات كلها في المملكة لافتتاح أقسام تربية خاصة، حتى لو لم يوجد فيها من الأساتذة المتخصصين الأكفاء.
التغيرات في سوق العمل يحكمها عوامل عدة، منها التغيرات على الصعيد العالمي في المنتجات التقنية، كالحاسبات المتقدمة، والروبوتات، التي أصبحت تنافس البشر في سوق العمل من حيث الدقة، وسرعة الإنتاج، إذ في السابق كان تغليف كثير من الأشياء، ووضع علاماتها التجارية وإرشاداتها يتم يدويا، وهذا يتطلب أعدادا كبيرة من العاملين، أما في الوقت الراهن، فحلت التقنية محل البشر، وقل عدد العاملين، أو هكذا يتجه الوضع.
التغيرات على الصعيد العالمي معرفيا، وتقنيا، واقتصاديا، وسياسيا، وما من شك أن أثرها في المجتمعات المحلية، ومهما كان مستواها الاقتصادي والتعليمي فهي، تسعى جاهدة إلى الأخذ بالجديد، والاستفادة من خبرات الآخرين في أنظمتها وأساليبها الإدارية، ما يؤثر في سوق العمل من حيث الترغيب في أحد التخصصات. ومن الأمثلة على ذلك، كان الإقبال محدودا على قسم التربية البدنية وعلوم الحركة في كلية التربية، لكن عندما غيرت الكليات العسكرية سياسات القبول فيها، أعطت خريجي القسم أولوية في القبول، فزاد الإقبال على القسم بصورة تنافسية عالية.
مع التوجه الجديد لخصخصة الجامعات، والتخفف من الاعتماد في ميزانياتها على الحكومة، لا بد من فلسفة إدارية وتعليمية وتدريبية جديدة، تتبناها الجامعات لتكون أكثر انفتاحا على القطاع الخاص، لرصد التغيرات في سوق العمل، ومعرفة الاحتياجات الفعلية كما وكيفا، بدلا من التوقعات، والتخمين، كما لا بد من رصد إحصائي دقيق لتحركات السوق، ومستجداتها، من قبل وزارة الاقتصاد والتخطيط، ووزارة الموارد والتنمية البشرية، والجهات ذات العلاقة كافة، وإمداد الجامعات بالمعلومات وإتاحتها للباحثين، فالخريجون يفترض أن يلبوا شروط صاحب العمل، وهذا يعني المنافسة بين الجامعات لتكون مخرجاتها على أعلى مستوى من الإعداد والتأهيل.
الجامعات في حلتها الجديدة بعد إعادة هيكلتها لا بد من اتسامها بالمرونة الإدارية، التي تمكنها من استحداث البرامج طويلة ومتوسطة وقصيرة الأجل، خدمة لاحتياجات سوقي العمل الخاص والحكومي، على أن يؤخذ في الحسبان خاصية التكامل بين التخصصات، سواء في العلوم الطبيعية، أو الإنسانية، ولعل الحاجة ماسة إلى الاهتمام بجودة التعليم والتدريب بدلا من تركها شعارات بلا إجراءات سليمة ومؤشرات أداء قوية وصادقة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي