ثقافة وفنون

ربطة العنق .. حبل مشنقة صار شفرة للشخصية

ربطة العنق .. حبل مشنقة صار شفرة للشخصية

أثارت قطعة قماش الكرواتيون في القرن السابع عشراهتمام نخب باريس لتظهر "الكرافة" الفرنسية فيما بعد.

يستخدم في الحياة اليومية كثير من الأشياء الصغيرة، دون التفكير - ولو لحظة - في أصول بداياته، ولا حتى في كيفية ابتكاره لأول مرة. يجهل كثيرون أن كل شيء من حولنا له تاريخ وسيرورة تطور، وقد يحدث في بعض الأحيان أن ينقلب الشيء من الفكرة إلى نقيضها تماما، قبل أن يستقر على الحالة التي يعين بها أمام ناظرينا في هذا العصر.
أضحت ربطة العنق، في هذه الأيام، شبه ملازمة لكثيرين في الحياة العملية، فهذه القطعة الصغيرة من القماش، باتت فرض عين في أزياء زعماء السياسة ورجال الدبلوماسية والمديرين وقادة الأعمال والأطباء.. لكن قلة قليلة التي تعلم شيئا عن أصول ربطة العنق، وما تحمل في طياتها من تاريخ طويل بأحداث مثيرة، وكيف كانت عند ابتكارها لأول مرة، وما أبرز التطورات التي شهدتها عبر التاريخ، ولماذا أطلقت عليها تسمية "كرافة"؟
تتداول المصادر التاريخية أكثر من رواية حول جذور هذا الاكسسوار الفريد، فتاريخها، حسب بعض الكتابات، يبدأ مع الرومان، حيث كانت جزءا من الأزياء الرومانية، ورمزا تعبيريا عن الانتماء الطبقي إلى جماعة معينة. وكان الخطباء في مجلس الشيوخ يرتدون ربطات عنق، تسمى Fascalia أشبه بالوشاح، تساعد على تدفئة الحلق، ودخلت إلى المجال العسكري في وقت لاحق، حيث استخدم جنود الإمبراطورية قطعة قماش بطول متر وزيادة، ضمن الأزياء العسكرية الرومانية.
وتذهب رواية أخرى إلى أن قصب السبق كان من نصيب قدماء المصريين، فهم أول من ارتدى ما يشبه ربطة العنق، التي كانت تزين حينها بالأحجار الكريمة، وكان ارتداؤها مقتصرا على علية القوم والطبقة الراقية، وكان لطبيعة ونوعية وقيمة الأحجار في قطعة القماش دلالة على قيمة الشخص ومكانته الاجتماعية. وانتشر لدى الصينيين تقليد خاص، يقضي بربط قطعة القماش تلك حول عنق الجنود والفرسان، ذلك في بداية المائة الثانية قبل ميلاد المسيح.
كانت لحرب الـ30 عاما "1618 إلى 1648" التي وقعت بين دول شمال ووسط أوروبا، في بدايات القرن الـ17، ارتباط وثيق بظهور ربطة العنق بشكلها الحديث، حيث عمد الجنود الكرواتيون إلى وضع وشاح ملفوف على العنق، بطريقة ارتداء ربطة العنق الحالية ذاتها، تعلقه النساء في أعناق أزواجهن، قبل التحاقهم بجبهات القتال، كعلامة على الحب والوفاء والحماسة للنصر، وكانت عملية التعرف عليهم تتم بسهولة، بسبب الأوشحة التي يرتدونها تحف أعناقهم، وقد تحولت مع اشتداد المعارك إلى وسيلة إعدام للكرواتيين، بتعليقهم على المشانق باستعمال ربطات العنق التي يرتدونها.
أثارت قطعة قماش الكرواتيين اهتمام النخب في باريس، وأعجب الفرنسيون غاية الإعجاب بهذا الوشاح الذي يجمل العنق، ويلفت النظر إلى صاحبه، لذا تم إدراجه من ضمن الزي الرسمي للساسة والقادة الكبار في زمن الملك لويس الرابع عشر، الذي بدأ في ارتدائها، بشكل شخصي، بدءا من عام 1646، ثم انتشر استخدامها في صفوف عامة الشعب. وأطلق عليها الفرنسيون تسمية a La Croat، ومعناها للكروات، ثم انتقلت مع مرور الوقت إلى "كرافة" Cravate المشتقة من كلمة "كروات".
سرعان ما انتشرت ربطة العنق نحو بقية دول القارة الأوروبية، لتغزو بقية أرجاء العالم، وساعدت الثورة الصناعية خلال القرنين الـ18 والـ19، على ظهور ربطة العنق بالشكل المعاصر الذي نعرفه اليوم. وكان للبريطانيين النصيب الأوفر من المساهمة في تطوير أنماطها وطرق صناعتها، وبلغ بهم الأمر حد تأليف كتب، تقدم نصائح ودروسا في "فن عقد ربطة العنق" (1828)، بعدما تحول هذا الإكسسوار بفضل تلك الأشكال والأنماط إلى وسيلة تبرز ذوق صاحبها وأسلوبه.
أخذت ربطة العنق شكلها العصري، ذا العقدة المحكمة بطرف مسطح متدل على الصدر، في منتصف القرن الـ19، وتوصل عالم فيزياء حينها إلى أن هناك 85 طريقة تسمح بعقد ربطة العنق، لكن قليلا منها معروف ومعمول به في عالم الموضة. وتبقى عقدة ويندسور Windsor أكثر هذه الطرق شهرة، التي يعتقد أغلب الأشخاص أنها ابتكار بريطاني. لكن الحقيقة غير ذلك، فأصولها تعود إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وتمت تسميتها على اسم دوق ويندسور البريطاني الذي تنازل عن الملك "إدوارد الثامن"، فقد امتاز طيلة حياته بربطات عنق باهرة من ابتكار زوجته الأمريكية.
تحولت قطعة القماش بتصميمها الحالي الذي يعود إلى عشرينيات القرن الماضي، من مجرد إكسسوار للتجمل والزينة، يضفي نوعا من الأناقة والجاذبية على عنق الرجل، إلى وسيلة لبث رسائل مبطنة، تعكس شخصية وطبع وثقافة صاحبها، على امتداد التغييرات التي شهدتها عبر الزمن، حيث تبدلت أشكالها، وفق صيحات الموضة، وتباينت بين القصيرة والطويلة والرفيعة والعريضة، لكنها بقيت دوما "صديقة" السياسيين بامتياز.
يعد فرانسوا شيل المؤلف الفرنسي في كتابه "ربطة العنق" (2003)، ربطة العنق لم تعد رمزا للخضوع والامتثال للعادات والتقاليد، إنما صارت أداة يعبر من خلالها الرجل عن شخصيته وتطلعاته، خصوصا عندما يتعلق الأمر بالسياسة، وفي ذلك يقول الخبراء "إن هناك لونين أساسيين لربطات العنق في عالم السياسة والأعمال، الأزرق والأحمر، يشير اللون الأخير إلى الحب والسلطة والنبل والاهتمام بتفاصيل الأشياء، فيما يدل اللون الأول على الإبداع والسلام والصفاء".
يحتفل الكرواتيون ومعهم كثير من دول العالم، في الـ18 من الشهر الجاري، باليوم العالمي لربطة العنق، ما يعني أن هذه القطعة من القماش صارت محل اهتمام وعناية كثير من الشعوب والأقوام، وخير شاهد على هذا القول، أنها تحولت إلى موضوع ورقة علمية في جامعة ستوكهولم، من إعداد فريق بحثي بقيادة ميكايل جوهانسون Mikael Johansson عالم الرياضيات السويدي، توصلت إلى أن هناك عددا من الطرق يصل إلى 1770147 طريقة، يمكن من خلالها عقد ربطة العنق.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون