الأزمة في مالي .. فرنسا مشكلة وليست حلا
الأزمة في مالي .. فرنسا مشكلة وليست حلا
لا تزال صورة المشهد العام في مالي ضبابية، بعد رابع انقلاب عسكري تشهده البلاد منذ استقلالها عن الاستعمار الفرنسي عام 1960، نتيجة تضارب المواقف والتقديرات حيال ما حدث الثلاثاء 18 آب (أغسطس) الماضي. فعلى الصعيد الداخلي راوح تلقي الماليين لما جرى، بين التفهم المتوجس والتأييد المطلق للانقلاب، فالجيش في هذه الواقعة ليس سوى منفذ لمطلب الشعب، الذي وضع الرئيس إبراهيم أبوبكر كيتا، منذ شهر حزيران (يونيو) الماضي، بين خياري الإصلاح أو الاستقالة. أما على الصعيد الدولي، فثمة شبه إجماع على رفض الانقلاب العسكري، وإدانة استخدام القوة قصد تحقيق التغيير السياسي.
تعمل اللجنة العسكرية، أو ما يعرف باسم "اللجنة الوطنية لخلاص العشب المالي" على إزالة هذا الغموض وإسقاط اللبس الذي يعم الوضع في مالي، باتخاذ سلسلة من الإجراءات تطمح من خلالها إلى كسب ثقة جميع الأطراف، بدءا بإجبار الرئيس على تقديم استقالته، قصد تمهيد الطريق لمرحلة انتقالية، مرورا بإعلان موقفهم الصريح من السلطة، فهم - كما جاء على لسان أحد قادة اللجنة - "لن يبقوا في السلطة، وليسوا طرفا في الصراعات السياسية والأيديولوجية، وبعيدون عنها"، وانتهاء بالدخول في مسلسل مشاورات مع جميع القوى الحية في مالي، ووفد منظمة الإيكواس، ولقاءات مع ممثلي الأمم المتحدة والاتحادين الأوروبي والإفريقي، وسفراء دول أجنبية.
دافع المنقلبون عن قرارهم الإطاحة بالرئيس - كما ديدن باقي الانقلابات - بفشل رجال السياسة في إدارة شؤون الدولة. رغم أن مشكلة مالي الرئيسة ذات أبعاد أمنية أكثر منها سياسية، خاصة في آخر انقلابين، فالأول "2012" كان بعد تمرد "الحركة الوطنية لتحرير أزواد" في شمال البلاد على القوات المالية، والثاني "2020" عقب تمدد التنظيمات المتطرفة في أطراف البلاد، ما يعني أن جوهر الفشل عسكري وليس سياسيا، فمسؤولية استتباب الأمن ومواجهة المخاطر المحدقة بالدولة من مهام قيادة الجيش وليس رجال السياسة.
كان التدهور الأمني سببا لعودة فرنسا إلى الدولة قبل سبعة أعوام، بموجب قرار أممي، شنت على أساسه حربا على الإرهابيين والانفصاليين، في ربوع البلاد، وأطلقت سلسلة عمليات عسكرية "برخان، تاكوبا..." في حرب لا أفق لها، غير تعزيز الوجود الفرنسي في الدولة، فقد بلغ إجمالي الجنود الفرنسيين في مالي أكثر من 5800 جندي، دون النجاح في تحقيق أي استقرار للأوضاع، لا بل زادت حدة الأسلحة، وإن اختلفت هوية حامليها، ما أثار شكوكا حول الهدف الحقيقي من وجود هذه القوات، خاصة بعد تزايد نشاط الحركات المسلحة، دينية كانت أم عرقية، في شمال مالي، على مقربة من القواعد العسكرية الفرنسية.
مالي في أعين فرنسا مجرد محمية، تتعرض فيها مصالح باريس لمخاطر الإرهاب، ما يستدعي وجودها لتوفير الحماية والأمن، رغم تزايد نسب المطالبين بطرد القوات الفرنسية من الأراضي المالية، حيث بلغت 80 في المائة، وفق أحدث استطلاع للرأي. لم يزد التدخل الفرنسي الأوضاع إلا تأزما، ما زاد من حنق الماليين على الاستعمار الجديد المغلف بتدخل إنساني، بعد انتشار الوعي باللعب القذر الذي تمارسه باريس في إفريقيا، من خلال إيجاد واستثمار التناقض بين القوى الحية في الدولة "الحكام، المعارضة، الجيش...".
تعتمد باريس هذا الأسلوب بغية التحكم في مجريات اللعب، في واحدة من أفقر دول القارة السمراء، رغم امتلاكها ثروة طبيعية هائلة، بوأتها مراكز متقدمة في إنتاج الذهب واليورانيوم، ما جعلها مطمعا للقوى الكبرى، وتعمل من أجل فرض نفسها، قوة دولية فاعلة في منطقة الساحل والصحراء، بالبحث عن فرص لإنشاء قاعدة عسكرية في مالي، في ظل الحصار الأمريكي الصيني لقاعدتها العسكرية في جيبوتي "كامب لموان".
يقود ما سبق إلى استنتاج مقنع، لفهم دواعي عدم تدخل القوات الفرنسية القريبة من وقائع عملية الانقلاب، قصد الحيلولة دون وقوعه، وحماية الرئيس المالي المحسوب عليها، فقد أدركت أن أسهم إبراهيم أبوبكر كيتا فقدت قيمتها لدى الماليين، لذا جاء تعليقها عن الانقلاب مقبولا جدا، لدرجة لا تشعر فيها أنه لدولة مصالحها مستهدفة، بينما تتولى في الكواليس التنسيق مع رؤساء تجمع الإيكواس للتفاوض مع الانقلابيين.
ويفسر على صعيد آخر، صعوبة نجاح أي تجربة ديمقراطية في دول غرب إفريقيا، وذلك ببساطة عائد إلى مخاوف فرنسا من إعلان خلع أي دولة بيعتها لباريس، فأي رئيس أفرزته انتخابات ديمقراطية شفافة، ويحظى بدعم قاعدة جماهيرية، بإمكانه أن يقود هذه المغامرة التي تنذر بالشروع في محاصرة الوجود الفرنسي في دول غرب القارة الإفريقية، وتخشى باريس من تحول هذا الانقلاب إلى شرارة تصيب دولا إفريقية مجاورة لمالي "الكوت ديفوار، غينيا، بوركينافاسو، غانا، والنيجر" مقبلة على تنظيم انتخابات رئاسية، في الربع الأخير من العام الجاري.
أدرك الأفارقة في شمال القارة وغربها أن التخلص من النفوذ الفرنسي يعد المفتاح السحري لمعظم مشكلات دولهم، لأجل ذلك تعالت أصوات تطالب بتحرير دول غرب إفريقيا من التبعية والولاء لفرنسا، وما الصراع المحتدم داخل هياكل منظمة الإيكواس منذ أعوام، حول فك ارتباط مشروع العملة الموحدة للتجمع الاقتصادي في فرنسا، سوى صورة حية عن تجذر هذه التبعية والولاء في صفوف النخب الحاكمة في إفريقيا، لدولة أسقط احتجاج أصحاب السترات الصفر ما تبقى من كبريائها.
إن الانقلاب العسكري الذي يعبر عن واقع الأزمة في مالي، والمنطقة الإفريقية، يعبر في الأساس عن أزمة تنموية، تحتاج إلى جهد مكثف، يرتبط في جانب بمدى وعي الأفارقة بمصيرهم، وفي جانب آخر بتخلي بعض القوى الدولية عن لعب دور الوصاية على دول، بدعوى الشرعية التاريخية. لقد تجاوز العالم محطة الولاءات والاصطفاف، ليدخل حقبة التنافس والندية وتبادل المصالح. وضع لم يستطع - حتى اللحظة - بعض النخب الإفريقية ومعه القوى الغربية استيعابه، ما ينذر بتكرار مثل هذه الأحداث، طالما هناك من يعبّد الطريق لوقوعها.