برنار ستجلر .. من ضيق السجن إلى رحاب الفلسفة

برنار ستجلر .. من ضيق السجن إلى رحاب الفلسفة
كتاب عصر الاضطراب.
برنار ستجلر .. من ضيق السجن إلى رحاب الفلسفة
برنار ستجلر

غادرنا يوم الخميس الماضي فيلسوف استثنائي، حول مسار حياته إلى تجربة فلسفية فريدة، أضحت متاحة للقراءة بين يدي الجميع، من خلال كتاب "الانتقال إلى الفعل" (2003)، ثم كتاب "الفلسفة الصدفة" (2004)، رحل المفكر برنار ستجلر Bernard Stiegler عن عمر يناهز 68 عاما، تاركا وراءه 20 كتابا وعشرة أخرى بالاشتراك مع مفكرين، لا تتجاوز المترجمة منها للغة العربية أصابع اليد الواحدة.
بدأ الراحل حياته في الضاحية الباريسية، اعتنق مبادئ اليسار الراديكالي مبكرا، متأثرا برياح ثورة أيار (مايو) 1968، طرد من المدرسة، ما حال دون حصوله على شهادة الثانوية العامة، أصبح والدا في 19 من عمره، فدخل عالم الشغل مكرها، حمالا ثم عامل بناء فصانع جواهر... لكن العائد كان قليلا، أجبره على مغادرة البيت، والانتقال نحو الريف، بعدما عجز عن دفع الإيجار.
عمل مزارعا في الريف، لكن جفاف عام 1976 فرض عليه تغيير النشاط، ففتح مطعما يقدم عروضا موسيقية مسائية في الجاز والروك وغيرها، أقدم رجال الشرطة على إغلاق المحل، بعد عثورهم على مخدرات مجهولة المصدر داخله، وإيقاف الحساب البنكي لصاحب المحل إلى حين تحديد هوية صاحب الممنوعات. أثار القرار غضب الرجل فقام بالهجوم على المصرف، تلته سرقة ثلاثة مصارف أخرى، قبل إلقاء القبض عليه، وإدانته بالضلوع في علميات سطو مسلح على البنوك، والحكم عليه بخمسة أعوام نافذة من السجن "1978 - 1983".
هذا موجز النصف الأول من حياة برنار ستجلر كما حكى عنه بإسهاب في حواراته وكتبه. بداية الشق الثاني، أي رحلة التفلسف، كانت داخل أسوار السجن، حين هم بتحقيق حلم كتابة الرواية، قبل أن يدرك ألا شيء عنده ليقوله، فما كتبه كان سيئا للغاية. بعد التفكير مليا، قرر الإضراب عن الطعام للمطالبة بزنزانة انفرادية، قصد التحضير للامتحان الذي يخول له التسجيل في الجامعة.
كانت معانقة الفلسفة داخل جدران الزنزانة تجربة فريدة، فقد وصفها الراحل بقوله "خلال الأشهر الأولى في الحبس، فهمت أن المهم هو الإقلاع عن الكلام، بل الاستماع إلى ما يدور في هذا الصمت.. عندما يوجد الصمت، ينطلق "هذا" (بمعنى الهو) في الكلام. وهنا، بالذات، من الممكن قول أشياء مفيدة. في هذا الوضع، للمرة الأولى، بدأت الدراسة، في السجن، تتضاعف قدرة العمل عشرات المرات، وما إن تجاوزت امتحان الدخول، شرعت في القراءة إضافة إلى النقد، وعلى هذا النحو، التقيت الفلسفة".
واصل ستجلر رحلة التفلسف بعد خروجه من السجن، حتى حصل على شهادة الدكتوراه عام 1993، تحت إشراف الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا. فكريا يجد قارئ ستجلر صعوبة في تصنيفه ضمن اتجاه فلسفي معين، فكتاباته خليط من كل شيء، لكنها في الآن ذاته تحتفظ لنفسها بالتميز قياسا على المتداولة في الساحة الفكرية الفرنسية، كما أن قراءاته المكثفة وأحيانا نقده الحاد لأعمال فلاسفة كبار، أمثال هايدجر وهوسرل وكانط وآخرين، تبعد عنه شبهة الانتماء إلى هذه المدرسة أو تلك.
تعددت وتشعبت انشغالات مدير مؤسسة البحث والابتكار IRI، لكنها تتقاطع في بحث التحولات السلوكية للبشرية إزاء التقلبات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فبداية مشروعه، كانت كتاب "التقنية والزمن" ثلاثة مجلدات "1994 - 2001"، كان مخصصا لدراسة أثر التطورات التكنولوجية المتلاحقة في حياة الإنسان. يمكن القول إن تحولات الزمن في عصرنا تقع في صلب مشروعه الفلسفي، فتاريخ الفلسفة، من وجهة نظره، تجاهل دور التكنولوجيا كمادة مؤثرة في الزمنية، وشكل من أشكال الذاكرة. وتولى في الشق الثاني من المشروع، الذي صدر في جزأين بعنوان "البؤس الرمزي" (2013)، بحث الطرق التي أصبحت بها التقنيات الثقافية والرمزية والمعلوماتية وسيلة لصناعة الرغبة في خدمة الإنتاج، وكشف جوانب من عواقبها المدمرة على الفرد والجماعة.
يمكن عدّ كتاب "المجتمع التلقائي" الذي استهله بجزء أول حمل عنوان "مستقبل العمل" (2015)، الشق الثالث من مشروعه الكبير، فيشرح أن كثيرا من رجال السياسة الغربيين يكذبون، بزعمهم أن "البطالة هي بصدد الاندحار ثم الهزيمة"، هذا القول مجرد "وهم كبير"، ذلك أن "العودة إلى توفير فرص العمل تماشيا مع مبادئ الرأسمالية تتناقض مع واقع أن زحف التكنولوجيا الرقمية إلى أسواق العمل يؤدي إلى فقدان أعداد كبيرة من البشر أعمالهم".
يبسط أطروحة الكتاب في إحدى محاضراته بالحديث عن الآثار التي ستترتب على هيمنة الثورة الرقمية وتكنولوجياتها، على مختلف النشاطات الإنسانية، من الحياة اليومية إلى الاقتصاد والسياسة وغيرهما من مشارب النشاط البشري، ويبين كيف أن "غزو الآلة حياة الإنسان، هو بمنزلة النتيجة الأساسية لما يطلقون عليه توصيف "اقتصاد الداتا" الذي اجتاح بسرعة الضوء مجالات العمل الإنساني".
يقف القارئ أو المستمع، على اعتبار أنه افتتح منذ عام 2010 مدرسته الفلسفية الخاصة على الإنترنت. لتجربة السجن أثر في فلسفته، وسبق له أن اعترف بذلك في مقابلة صحافية، حين قال "في الحبس، عشت توقف عالم الحدوث، لكن، حتى في ذلك، اكتشفت أن هناك شيئا، هناك ذاكرتي، التي كانت كناية عن وجع... في الحبس، لا شيء يتغير، البارحة كاليوم الذي سيكون كالغد. هذا الاستقرار غير محتمل البتة، إلا في حال التحول الفينومينولوجي، هنا، التحول إلى فضيلة الاعتقال، تتيقن من أن شيئا ما يحدث حتى عندما يبدو ألا شيء يحدث، مثلا، البارحة لم تكن على ما يرام، واليوم أفضل، أو العكس. الفلاسفة على حق، ما يحصل لنا، يأتي منا".
لقد كانت تجربته السجين/الفيلسوف مغامرة نوعية، أعادت صناعة شخصية الرجل، "قضيت خمسة أعوام في السجن، ومع خروجي منه، لم أعرف القيام بكثير من الأشياء، ولا عبور شارع حتى، لكن المكسب أنني عندها رأيت كل شيء كأنه جديد. إنه حلم رسام، أو حلم فيلسوف".

الأكثر قراءة