سياسة أمريكا الخارجية في ميزان الواقعية والأخلاق

سياسة أمريكا الخارجية في ميزان الواقعية والأخلاق
روبرت زوليك
سياسة أمريكا الخارجية في ميزان الواقعية والأخلاق
غلاف "أمريكا في العالم"

بالنسبة للأوروبيين، هناك شيء واحد أسوأ من علاقات فوق الحد مع أمريكا، هو علاقات دون الحد مع أمريكا. بالأمس فقط يبدو أن أصدقاء واشنطن رأوا غزو جورج دبليو بوش للعراق عرضا طائشا ومتهورا للقوة العسكرية الأمريكية. الآن يندب الحلفاء تنازل دونالد ترمب عن القيادة العالمية في سعيه لتحقيق رؤيته حول "أمريكا أولا". مثلما كانت الولايات المتحدة متهورة في الإطاحة بصدام حسين، سيكون من غير المسؤول بشكل خطير التخلي عن العالم إلى الفوضى. لقد كنا هنا من قبل. منذ تأسيس الجمهورية، بدت السياسة الخارجية الأمريكية في كثير من الأحيان وكأنها بندول يتأرجح بين الانعزالية الأنانية، غير مهتمة بالأحداث خارج شواطئ أمريكا، والتدخل المتسم بالتقى والورع، المتجذر في الاستثناء الأمريكي.
قد يبدو هذا الوصف تبسيطيا، إلا أنه يشتمل على أكثر من نزر يسير من الحقيقة. خلال عشرينيات وثلاثينيات القرن الـ20، أقامت الولايات المتحدة المتاريس وأغلقت أعينها على أوروبا. في الطرف الآخر من قوس البندول، قال كثير من الأمريكيين لأنفسهم إن بوش غزا العراق في معرض القضية النبيلة وهي زرع الديمقراطية عبر الشرق الأوسط. لم تخدم أي من هاتين السياستين العالم بشكل جيد – غياب أمريكا ترك أوروبا منفتحة أمام صعود الفاشية، وحرب من اختيار أمريكا تغرق معظم الشرق الأوسط في صراعات لا تزال مستعرة بعد نحو 20 عاما من الغزو.
بالنسبة لمعظم الوقت، كانت الحياة الواقعية أكثر تعقيدا إلى حد ما. كما نعلم من كتاب "أمريكا في العالم" America in the World، وهو تأريخ روبرت زوليك الرائع للسياسة الخارجية الأمريكية، اختلطت نزعة التدخل والنزعة الانعزالية بدوافع أخرى في تشكيل علاقات أمريكا مع الحلفاء والخصوم. المثالية التي تحدد لغة الرؤساء الأمريكيين الطنانة دائما ما كانت تخففها الواقعية المتشددة التي جعلت القرن العشرين هو القرن الأمريكي. الحرب الباردة التي قادتها الولايات المتحدة ضد الشيوعية السوفياتية، كانت، بحق، تدور حول لغة الحرية والكرامة الإنسانية وسيادة القانون. إلا أن هذه الأهداف الرائعة لم تمنع شاغلي البيت الأبيض المتعاقبين من دعم الطغاة والدكتاتوريين في أمريكا اللاتينية وجنوب إفريقيا، سعيا وراء استراتيجية "الاحتواء" التي وضعها الدبلوماسي الأمريكي جورج كينان للحد من أي تقدم إضافي في نفوذ موسكو. في تعاملاتها مع الحلفاء كانت الحماسة الأخلاقية في واشنطن في كثير من الأحيان تظهِر تناسبا مريحا مع تقييمات المصلحة الوطنية الذاتية. بذلت الإدارات الأمريكية قصارى جهدها للإسراع باضمحلال الإمبراطورية البريطانية من خلال استدعاء قضية تقرير المصير للمستعمرات المضطهدة. ثم، حين كان ذلك مناسبا لها، دخلت واشنطن خلف البريطانيين المغادرين.
دراسة زوليك التاريخية الواسعة والكبيرة، التي تبدأ بالمجهود الناجح من بنيامين فرانكلين، أول دبلوماسي أمريكي، لاستمالة الفرنسيين من أجل استقلال المستعمرات الأمريكية الـ13، غنية باللحظات التي توضح هذا التوازن المتغير - وتسلط الضوء على التناقضات التي هي أكثر من عرضية من خلال 45 رئاسة. يجلب زوليك إلى المهمة فكرا حادا وخبرة طويلة في الدبلوماسية الدولية. بدأ مستشارا لوزارة الخارجية في إدارة جورج بوش الأب وشغل منصبي الممثل التجاري الأمريكي ونائب وزير الخارجية في عهد جورج بوش الابن. ثم جاءت فترة عمل فيها رئيسا للبنك الدولي بين 2007 و2012.
كانت هذه أوقات اهتم فيها الرؤساء بالعالم، والكلمات والعبارات مثل "الاستراتيجية الكبرى" وفن الحكم والدبلوماسية كانت لا تزال تعني شيئا في البيت الأبيض. حصل زوليك على مقعد متميز أثناء الدبلوماسية الحذرة لوزير الخارجية جيمس بيكر - الدبلوماسية التي حدت من مخاطر انهيار الشيوعية، وشكلت ائتلافا دوليا واسعا لحرب الخليج الأولى. بالنسبة إلى زوليك، التقلبات والمنعطفات في السياسة الأمريكية كانت مدفوعة بالتفاعل بين خمسة تقاليد دائمة. الأول - لتأمين الهيمنة في نصف الكرة الغربي - جلب من بين أمور أخرى مبدأ مونرو، وقناة بنما، ودعم واشنطن لجنرالات أمريكا اللاتينية خلال الحرب الباردة. كان الثاني هو الحاجة إلى فتح أسواق أجنبية للمنتجات والتكنولوجيا الأمريكية، بينما كان الثالث هو النهج المتغير بشأن التحالفات. تجنب ألكسندر هاملتون جميع التحالفات والعلاقات المعقدة. لكن هاري ترومان، ودين أتشيسون، وجورج مارشال بنوا بعد 1945 أقوى تحالف شهده العالم على الإطلاق.
تقليد زوليك الرابع هو الاحترام الذي يجب على القادة الأمريكيين إظهاره للرأي العام، في حين أن الخامس هو الاستثنائية التي تدعي أن الولايات المتحدة دائما ما تخدم غرضا أكبر. يفسر التوتر بين هذين بعض أكبر التقلبات في السياسة. وهكذا نجد أن وودرو ويلسون فاز في الانتخابات الرئاسية في 1916 بوعد بالبقاء خارج الحرب العالمية الأولى، لكنه غير رأيه لاحتضان التدخل الليبرالي، ثم وجد أن خطته الكبرى لعصبة الأمم قد تبرأ منها الكونجرس.
تضمنت هذه الرواية قصصا صغيرة مضيئة. لطالما اشتهر هنري كيسنجر، مهندس السياسة الخارجية لريتشارد نيكسون، بكونه واقعيا لدودا، رفض أي بعد أخلاقي للسياسة الخارجية. مع ذلك، من المذهل أن تقرأ الطريقة التي صور بها اليابان، حليفة أمريكا، بأنها التهديد الكبير للسلام في شرق آسيا خلال جهوده الناجحة للتفاوض على "انفتاح" نيكسون التاريخي على الصين.
بالنسبة للذين يشعرون بالقلق من أن رئاسة ترمب تمثل قطيعة دائمة مع تسوية ما بعد الحرب العالمية الثانية، فإن الرسالة المقلقة من رواية زوليك هي أن نظام التحالف الشامل الذي أنشأه ترومان وأتشيسون ومارشال بعد 1945 يمكن أن يتبين بالتأكيد أنه كان فترة انتقالية. الالتزام الأمريكي بدأ يتصدع منذ حرب العراق الثانية. الآن، مع ازدرائه لحلف الناتو وازدرائه الواضح لتحالفات الولايات المتحدة مع اليابان وكوريا الجنوبية، يعمل ترمب على تفكيك التحالف. أمل أوروبا الشديد هو أن تسفر انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر) عن خروج ترمب من البيت الأبيض وأن يبدأ البندول في التراجع.

الأكثر قراءة