هوس الاختيار العقلاني

هوس الاختيار العقلاني

في 24 حزيران (يونيو) 2016، اليوم التالي لاستفتاء بريطانيا بشأن بريكست، ذهب ريتشارد روب، مدير صندوق التحوط، للركض حول حديقة هايد بارك في لندن. يعترف في كتابه الجديد بعنوان "بإرادتنا: كيف نختار ما نفعله" Willful: How We Choose What We Do: "عادة أجد الركض متعبا وأعد الدقائق تنازليا حتى ينتهي هذا التعذيب". لكن في ذلك اليوم "لم ألاحظ ذلك. كان شعوري بالألم يزاحمه شعوري بالرعب الذي يلوح في الأفق".
واجه صندوق روب أزمة محتملة لأن تداولاته كانت معرضة لموجات صادمة أرسلتها نتيجة مفاجئة عبر الأسواق المالية. يتذكر أنه كان يخشى حدوث سيناريو تكون فيه "وصمة العار على سمعتنا طويلة الأمد".
في ذلك الوقت كان شعوره بالرعب غير مبرر. تجنب الوقوع في كارثة من خلال الاستفادة من المهارات التي تعلمها أثناء عمله في مصرف داي إيتشي كانجيو الياباني DKB خلال الأزمة الآسيوية 1997-1998، وبعد ذلك تولى إدارة صندوقه خلال فترة انهيار بنك ليمان براذرز في 2008. واليوم ينظر إلى الحادثة وهو يشعر بارتياح للطريقة التي عمل بها فريقه للتغلب على المأزق.
لكن التجربة أثارت أيضا أمرا آخر. روب الآن في حملة عنيفة لتصحيح هوس مهنة الاقتصاد بـ"الاختيار العقلاني" - وهي فكرة أن البشر يتخذون دائما قرارات منطقية ويسعون إلى تحقيق أقصى قدر من المصلحة الشخصية.
يشير إلى أن إنشاء صندوق تحوط ينطوي على مخاطرة بالمال والسمعة. والتعرض لأحداث مثل بريكست أمر قد لا يبدو بالضرورة "عقلانيا" بالنسبة لمصرفي سابق ثري - مثلما كان حاله عندما ترك العمل في مصرف داي إيتشي كانجيو.
يعترف: "في الواقع، بدء عمل تجاري جعلني أعرض كل ما أملك للخطر". السبب وراء ذلك أنه كان يشعر بالملل بسبب التقاعد المبكر ويسعى للشعور بالبهجة والانتعاش من العمل الذي يشكل تحديا بالنسبة له.
قضى روب بداية حياته المهنية في تحضير رسالة الدكتوراة في جامعة شيكاغو، وهي تضم "مدرسة شيكاغو" للاقتصاد التي كانت تؤيد فكرة أن الأسواق الحرة والجهات الفاعلة العقلانية ستضمن التخصيص الأمثل للموارد. غير أن حياته العملية اللاحقة أظهرت له عالما مليئا بأشخاص يبحثون عن فرص عمل وأنشطة، الأمر الذي لا يمكن تفسيره بسهولة من خلال هذا الأنموذج.
خلص إلى أننا بحاجة إلى إعادة التفكير. في بعض الأحيان نتخذ خيارات عقلانية لتحقيق الحد الأقصى من المصلحة الشخصية، لكن في كثير من الأحيان نمارس نشاطا "من أجل النشاط نفسه"، لأنه يدعم هويتنا ويمنحنا شعورا بالرضا عن النفس، وما إلى ذلك.
كتب: "الاعتراف بأننا نمارس نشاطا ’من أجل النشاط نفسه‘ يمنحنا إذنا بتبني سلوك معين لا يمكننا تفسيره لأنفسنا أو للآخرين على نحو يتسم بالصدقية من حيث الاختيار العقلاني".
عندما قرأت هذا الكتاب لأول مرة، يجب أن أعترف أنني كنت أميل إلى أن أشيح بناظري وأقول: "بالطبع، هذا واضح!" هذا صحيح، كثير من الاقتصاديين والمسؤولين في البنوك المركزية اعتادوا أن يكونوا متعصبين لمدرسة شيكاغو للاقتصاد. لكن لطالما سخر خبراء الاقتصاد السلوكي من أفكارها.
لاحظ روب أن دانييل كانيمان، وريتشارد ثالر، وكاس صنشتاين، على سبيل المثال لا الحصر، أظهروا أن التحيزات العقلية والطرق المختصرة في غالب الأحيان تجعل البشر أي شيء عدا أن يكونوا "عقلانيين".
هناك تخصص أكاديمي يعرف باسم "الأنثروبولوجيا الاقتصادية" يحاول تأطير الاقتصاد في سياق اجتماعي وثقافي أوسع. مثلا، ينظر إلى الاقتصاد من حيث التعريف الممكن، الأوسع نطاقا لـ"التبادلات" والقيم الاقتصادية الاجتماعية وليس فقط المعاملات النقدية.
من المحزن أن بعض الاقتصاديين المنتمين إلى التيار السائد ليس لديهم أدنى فكرة عن أن الأنثروبولوجيا الاقتصادية موجودة، على الأقل أولئك الذين تدربوا في مدرسة شيكاغو. يرجع ذلك جزئيا إلى الطبيعة ذات التوجه الداخلي للأقسام في مجتمع الأنثروبولوجيا، فضلا عن غطرسة بعض الاقتصاديين.
مع ذلك، بدأ آخرون، مثل روبرت شيلر، يستفيدون من الأنثروبولوجيا – عمله الجديد الرائع "الاقتصاد القصصي" مثال على ذلك. آمل أن يتبعه كثيرون. كتاب روب الصغير والمفاجئ يفتح المجال لحوار أكثر شمولا.
يعد الكتاب مهما أيضا من نواح أخرى. حقيقة أن المتعصب السابق لأفكار مدرسة شيكاغو للاقتصاد قد أوضح سبب إعادة التفكير في آرائه ترمز إلى نقلة نوعية كبيرة. وهو أمر مهم من حيث السياسة العامة.
في هذه الأيام نميل إلى مناقشة التوظيف باستخدام معايير اقتصادية ضيقة: ساعات العمل، والأجور المكتسبة، واستهلاك الأسر، والتنقل في سوق العمل، وما إلى ذلك. وهو أمر معقول: معظمنا بحاجة إلى الدخل من أجل البقاء على قيد الحياة (إلا إذا كنا مصرفيين سابقين أثرياء).
لكن كما جادل إدموند فيلبس، الاقتصادي الحائز على جائزة نوبل - والشخص الذي ألهم روب بشكل جزئي إعادة التفكير - منذ فترة طويلة، نحتاج أيضا إلى إيجاد طريقة لابتكار رؤية اقتصادية أكثر تركيزاعلى الإنسان. نحتاج، مثلا، إلى إدراك الشعور بالكرامة والانتماء إلى المجتمع الذي أوجدته وظائف لا يمكن تحديدها بالأرقام.
بالتأكيد هذا صعب للغاية. الاقتصادات التي تتبع أسلوب مدرسة شيكاغو للاقتصاد تنتج مخططات، ومعادلات، وتوقعات تبدو دقيقة بشكل مطمئن، بحيث يسهل على المستثمرين وصناع السياسات استخدامها.
العيب الكبير في التمويل السلوكي - والأنثروبولوجيا الاقتصادية - أنه غالبا ما يبدو غامضا لدرجة أن استنباط الاستراتيجيات منه قد يكون مهمة عسيرة.
يحاول روب، حسب تقديره، رسم شجرة لاتخاذ القرارات لمساعدة المستثمرين، وصانعي السياسات، ومديري الأعمال، وطلاب الاقتصاد في اتخاذ القرار بشأن متى يستخدمون أنموذجا اقتصاديا عقلانيا، ومتى لا يفعلون.
هذه خطوة بدائية، لكنها توفر منبرا لنقاش كان ينبغي أن يبدأ منذ فترة طويلة، ولا سيما في الوقت الذي أظهر فيه بريكست وصعود الشعبوية أن من الحماقة التنبؤ بمشاعر الناخبين ببساطة من حيث الحوافز الاقتصادية والأرقام.

الأكثر قراءة